يأتي إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمس الثلاثاء، عن إطلاق عملية حكومية لزيادة سعر رغيف الخبز المدعوم الذي يبلغ إلى الآن خمسة قروش، والذي يعتبر مكوناً رئيسياً في الوجبات الغذائية لعموم المصريين، تعزيزاً لسياسات الإفقار.
وتساهم هذه الخطوة في استمرار اتساع الهوة بين السياسات الرسمية والفئات الأكثر احتياجاً من الشعب المصري، وبما يفرّغ حديث الحكومة بشأن التركيز على مصالح المناطق الأكثر فقراً من مضمونه.
فعلى النقيض من حديث تطوير الريف والضواحي العشوائية والفقيرة بالمبادرة الحكومية "حياة كريمة"، والتي تركز في الأساس على تحسين أوضاع المرافق الخدمية والبنية التحتية، يأتي القرار الأخير ليضرب المجتمع نفسه في مقتل، من خلال الحدّ من قدرة أفراده على امتلاك قوت يومهم، كمستحقين للدعم الحكومي منذ خمسة عقود على الأقل، في بلد يعاني من نسبة مرتفعة من الفقر تصل إلى ثلاثين في المائة، حسب التقديرات الرسمية.
وعمل النظام الحالي على تخفيض عدد المستفيدين من دعم الخبز تدريجياً، وتطبيق قواعد صارمة للاستفادة من السلع التموينية مخفضة السعر. وتحت ستار ما وصفته الحكومة بـ"تنقيح منظومة الخبز لضمان وصول الدعم لمستحقيه"، تمّ خفض عدد المستفيدين من الخبز المدعوم يومياً من 81 مليون مواطن إلى 71 مليوناً بحلول العام الحالي، على الرغم مما شاب عملية التنقيح من مخالفات عديدة، وصلت آلاف الحالات في إطارها إلى القضاء بسبب التعسف في حذف الأسماء والتلاعب أو الخلط بين بيانات المستحقين، ووجود أخطاء في عملية التقييم والبحث الاجتماعي.
ومع ذلك، استمر نحو سبعين في المائة من أفراد الشعب المصري بالحصول على الخبز المدعوم، وهو ما اعتبره رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، ووزير التموين علي مصيلحي، في بيانين أمام مجلس النواب في وقت سابق من هذا العام، "أمراً جيداً ويؤكد حرص الدولة على توفير الأمن الغذائي للمواطنين".
وما يؤكد أنّ تكليفات السيسي بتخفيض الدعم لم تتم دراستها بشكل مستفيض من قبل الجهات الحكومية المختصة، هو أنّ وزارة التموين كانت قد أعلنت سلفاً إطلاق منظومة جديدة للخبز المدعوم بعد انتهاء جائحة فيروس كورونا أو استقرار أوضاعها، تتضمن تحويل دعم الخبز للمواطن ليصبح قيمة مالية ثابتة شهرياً، قدرها تسعون جنيهاً للفرد، بدلاً من حصول كل فرد يومياً على خمسة أرغفة. ويقتطع المخبز من هذه القيمة قيمة الأرغفة المباعة للمواطن تلقائياً، من دون اللجوء إلى تسويات بين المخبز ووزارة التموين، وذلك عبر منظومة الدعم السلعي لمنظومة الخبز الحالية.
يأتي القرار الأخير ليضرب المجتمع نفسه في مقتل، من خلال الحدّ من قدرة أفراده على امتلاك قوت يومهم، كمستحقين للدعم الحكومي منذ خمسة عقود على الأقل
وبذلك، يُحاسب المواطن عن كل رغيف لا يتم صرفه له (بحال اشترى أقل من 5 أرغفة) بستين قرشاً، يستفيد منها بسلع أخرى يحصل عليها من منافذ وزارة التموين والمجمعات الاستهلاكية.
والهدف الأساسي من هذه المنظومة توفير ما يقرب من مليون طن قمح سنوياً، بتخفيض الإنتاجية وتقليل الكميات المهدرة من المنتج اليومي.
وبالنظر إلى المستفيدين من الخبز المدعوم في ظلّ الوضع الاجتماعي الهش والقلق في مصر، يتبين أنّ الفئات الأكثر تضرراً ستطابق تقريباً الفئات نفسها التي تضررت من القرارات السابقة للسيسي بوقف أعمال البناء على مستوى الجمهورية وفرض رسوم باهظة للتصالح في المخالفات بالمناطق الريفية والفقيرة، والتي مثلت الأسباب الرئيسية لاندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد النظام في سبتمبر/أيلول الماضي.
وقد شملت هذه الاحتجاجات مناطق ريفية عديدة في ثماني محافظات، هي الجيزة وبني سويف والمنيا وأسيوط والأقصر وأسوان ودمياط والمنوفية، وواجه خلالها النظام لحظات عصيبة.
وكشفت التعليقات المبكرة للمواطنين على قرار السيسي الأخير، عبر مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات التابعة للدولة، غضباً شعبياً واسعاً من سياسات الدولة.
ويمثّل رغيف الخبز المدعوم الغذاء الرئيسي للمواطنين في المناطق الريفية التي شهدت الحراك الشعبي الأخير، والتي كانت في معظم الأحداث توصف من قبل قوى سياسية عديدة، خاصة ممن شاركت في ثورة 25 يناير 2011، بأنها تتسم بالصمت والانتظار والميل إلى الاستقرار وموالاة النظام.
حتى أنّ الاستثناءات المحدودة التي ظهرت في الحراك الشعبي المعارض لانقلاب يوليو/تموز 2013، كانت تقتصر على بعض قرى الجيزة والمنيا وأسيوط ذات الحضور الإسلامي القوي، ولم يبرز دورها إلا في مرحلة لاحقة خلال مجزرتي فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
وقبل ذلك، كانت المناطق الريفية ذات حضور محدود في الاحتجاجات الشعبية في آخر سنوات عهد الرئيس الراحل المخلوع حسني مبارك، إذ كان الحراك مقتصراً على بعض المدن ذات الطابع الحضري والعمالي، كالقاهرة والمحلة والسويس والإسكندرية.
وكانت القوى السياسية ومراقبون يعزون ذلك إلى تكريس نظام مبارك تحالفات مصلحة متبادلة طويلة الأجل بين القيادات الشعبية والقبلية في القرى وبين وزارة الداخلية والقيادات الإقليمية للحزب الوطني الحاكم آنذاك، وتمكنه من السيطرة على العائلات الريفية الكبرى من خلال مجاملتها بعضويات مجلسي الشعب والشورى بالتبادل في ما بينها، فضلاً عن السيطرة المبكرة على المشاكل المحلية التي قد تثير الاضطرابات، وتدخل وزارة الداخلية في الوقت المناسب قبل تفاقم الأوضاع.
وعلى الرغم من إطلاق مشروعات كـ"حياة كريمة" و"الريف المصري الجديد"، إلا أنّ السيسي يعدّ أول رئيس مصري لا يزور قرية أو منطقة ريفية حقيقية، فمعظم المشروعات يفتتحها عن بعد بحضور ضباط الجيش، والمناطق الريفية الوحيدة التي قصدها هي عبارة عن قرى ومزارع نموذجية من تصميم وصنع الجيش ولا تربطها بالريف المصري الحقيقي صلة.
ولا ينفصل قرار رفع سعر الخبز المدعوم عن سياسات الإفقار السابقة التي تضرر منها الريف المصري، من زيادة في أسعار الخدمات والمرافق من كهرباء ومياه وغاز، وزيادة أسعار المواد والاحتياجات الزراعية، وقرارات وقف زراعة العديد من الأصناف وتخفيض أسعار توريد المحاصيل. وقد بلغت هذه السياسات ذروتها بتفجير ملف مخالفات البناء العام الماضي.
السيسي يعدّ أول رئيس مصري لا يزور قرية أو منطقة ريفية حقيقية، فمعظم المشروعات يفتتحها عن بعد بحضور ضباط الجيش
إذ باتت كل قرية فوق برميل بارود قابل للاشتعال في أي لحظة، خصوصاً منذ قرار وقف البناء على مستوى الجمهورية، الذي كانت له انعكاسات خطيرة اقتصادياً واجتماعياً، ما زالت مستمرة على محافظات عدة، وتحديداً قرى محافظة الجيزة، ولا سيما مراكز أطفيح والصف والعياط، التي يتركز فيها 650 مصنعاً لإنتاج الطوب، بما يمثل 65 بالمائة من الإنتاج المحلي.
وتوقف عدد كبير من هذه المصانع عن العمل، ما أورث القرى البطالة وانخفاض المداخيل، بسبب وقف الإنشاءات، بينما لا تعتمد مشروعات الجيش والحكومة على إنتاج تلك المصانع.
ولم تستجب الحكومة لمطالبات أصحاب المصانع والمواطنين إلا بعد الاحتجاجات الشعبية، إذ أصدر محافظ الجيزة بياناً في محاولة لتهدئة الأوضاع واحتواء غضب الأهالي، أعلن فيه عن عمل الحكومة على شراء إنتاج مصانع الطوب بالصف وأطفيح بصفة دورية لاستخدامها في المشروعات الحكومية الجاري تنفيذها، لحين الانتهاء من المعايير المنظمة لأعمال البناء والتشييد خلال الفترة المقبلة، واستعادة عجلة الإنتاج والتوريد بصورتها الطبيعية، وهو ما لم يتحقق إلى الآن.
وما زالت جميع المناطق الريفية متضررة من قرار وقف البناء، لما سببه من زيادة في معدلات البطالة، إذ تنتمي للمناطق الريفية الغالبية العظمى من العاملين في الإنشاءات ووظائف المعمار البسيطة من تشطيب وبناء ونقل، ويتقاضى معظمهم الرواتب بنظام اليومية.
وسبق لمصر أن شهدت انتفاضة شعبية تاريخية ضد الغلاء في يناير/كانون الثاني عام 1977، سميت بانتفاضة الخبز، بعدما أعلنت حكومة الرئيس الراحل أنور السادات اتخاذ إجراءات تقشفية لزيادة أسعار السلع الاستراتيجية، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، منها رفع سعر الخبز بنسبة خمسين بالمائة والسكر خمسة وعشرين بالمائة والشاي خمسة وثلاثين بالمائة وكذلك بعض السلع الأخرى، ومنها الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر. ووصف السادات التظاهرات التي خرجت وقتها بأنها "انتفاضة حرامية" وأخمدها بالقوة وملأ السجون بآلاف المعتقلين.
وحافظ مبارك على سعر الخبز المدعوم طوال فترة حكمه، بما لا يزيد على خمسة قروش (رغم إلغاء العمل ضمنياً بعملة الخمسة قروش)، لكن السنوات السابقة لثورة 25 يناير، شهدت انتشاراً للفساد في منظومة الخبز والسلع التموينية بشكل عام، أدت لعدم وصول الدعم لمستحقيه، والتوسّع في الاتجار في الدقيق التمويني المدعوم من الدولة، مع تردي مستوى الخدمة، وتقليص حجم الرغيف وقلة مراكز البيع وتأخر التوريد، وهو ما تسبب في أزمات عدة، كان تراكمها من الأسباب المساهمة في اندلاع الثورة، وتبلور ذلك في شعاراتها منذ اللحظة الأولى "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"
(الدولار = 15.7 جنيهاً تقريباً)