وسط أجواء ضبابية وأزمة مالية خانقة تنفث سموم الغلاء والركود في مصر، تعالت الدعوات بين اقتصاديين وسياسيين للبحث عن مخرج ينجيهم من صرخات مواطنين تعالت في الشوارع ومجالسهم ووسائل التواصل الاجتماعي. سيطرت أجواء الأزمة على مناقشات اللجنة الاقتصادية بالحوار الوطني، التي عقدت اجتماعاتها على مدار يومين هذا الأسبوع.
طلب مقرر اللجنة الاقتصادية ووزير المالية الأسبق، ذي التوجه الليبرالي، أحمد جلال أن يتخلى الحضور عن أيديولوجيتهم وأفكارهم المسبقة من أجل الوصول إلى حل "براغماتي" يخرج البلاد من عثرتها ويوقف خسائر الموازنة العامة، وينقذها من تغول الديون والغرق في دوامة الاستدانة لتمويل مشروعات لا يعلم أحد ميزانيتها أو أسباب إقامتها، ولا العائد من ورائها، وتزاحم الدولة، لتكسر قدم القطاع الخاص، بينما الاقتصاد السليم يحتاج للسير على قدمين بطريقة صحيحة.
سيطرة الدولة
تراشق المتحدثون حول أفكار تكشف عن تمسك الأغلبية بالسير على طرز قديمة تعزز دور الدولة في إدارة الاقتصاد وقيادة السوق وعدم التصرف في ملكية الأصول العامة، بينما توافقت الأغلبية على ضرورة توقف الجيش والمؤسسات السيادية عن التغول في الاقتصاد وحظر الإسناد المباشر للأعمال، والرقابة الجيدة على مصروفات وإيرادات الموازنة العامة، والحد من الفساد، بعدما تراجعت مصر في مؤشرات الفساد عالميا وأصبحت في ذيل مؤشر إنجاز الأعمال.
حذر المشاركون من التباطؤ في تقديم الحلول وتنفيذها، مؤكدين أن الوقت يمر بسرعة والدولة بحاجة ماسة إلى العملة الصعبة لتدبير العجز بين الواردات والصادرات ودفع ما عليها من ديون هائلة، والناس يريدون عملا حقيقيا، والمستثمرون يبحثون عن سياسات تطمئنهم على أموالهم ومستقبل استثماراتهم، بينما تتسع الفجوة بين مصر وغيرها من دول المنطقة.
اتفق نواب التيار المدني على أن الإفراج عن المعتقلين السياسيين وفتح المجال للحريات العامة وتداول المعلومات ورفع الحجب عن المواقع المحظورة، منذ عام 2016، من أهم المؤشرات التي تدعم النشاط الاقتصادي وتنشط الاستثمارات وتدفع المستثمرين الأجانب إلى الثقة في مناخ الاستثمار.
نزيف دائم للموارد
بدأ عضو مجلس الشيوخ عبد الخالق عياد بشرح الخسائر الهائلة التي تسببها 51 هيئة اقتصادية تضعها الدولة في قائمة الجهات الإنتاجية بينما تسبب نزيفا دائما لموارد الموازنة العامة، مشيرا إلى أن 282 شركة قطاع أعمال عامة معظمها يحقق خسائر سنوية، ويصل متوسط العائد على رأس المال فيها إلى نحو 5% سنويا.
طلب النائب إعادة النظر في طبيعة هذه المؤسسات العامة، وإصدار قانون موحد للاستثمار تخضع له الشركات العامة والخاصة، لتحكم الشركات على أساس القيمة والمنفعة، وقواعد الشفافية، والرقابة، والحوكمة.
حذر وزير التجارة والسياحة الأسبق منير فخري عبد النور من مزاحمة المؤسسات السيادية للقطاع الخاص، مشيرا إلى أنها تعمل في ظل هياكل تمويلية غير واضحة، ولا تخضع للرقابة أو المحاسبة، وهو ما يجعل المنافسة معها غير متكافئة.
أشار عبد النور إلى التزام الحكومة بوقف إقامة شركات أو مشروعات جديدة يوفرها القطاع الخاص، بينما ما زالت تلك الجهات تقيم المزيد من الشركات، متسائلا هل هناك وجهات نظر مختلفة داخل الدولة في إدارة الاقتصاد؟
وتخوف من فشل الحكومة في مراجعة صندوق النقد ربع السنوية المؤجلة منذ مارس/ آذار الماضي، مؤكدا أن ذلك يهدد بتخفيض التصنيف الائتماني لمصر إلى مستوى "سي"، وهو ما يحرم القطاعين العام والخاص من الحصول على قروض من المؤسسات الدولية.
وصف عبد النور الأزمة التي تمر بها الدولة بأنها ناتجة عن تعدد مصادر التمويل، الذي يأتي لجهات مختلفة لا يمكن التثبت من مطابقة أرقامها، وعدم الربط بين الموارد وآجال التمويل، لافتا إلى أن "التحسن الاقتصادي لن يتوافر إلا إذا توافرت العملة الصعبة وعملنا على تخفيض الدين العام".
إنشاء مجلس اقتصادي
من جانبه، كشف الباحث الاقتصادي رائد سلامة عن افتقاد الاقتصاد إلى منهج واضح لإدارته، داعيا إلى إنشاء مجلس اقتصادي له صفة الإلزام أو يعمل استشاريا، يتولى دراسة القوانين والمشروعات الاقتصادية قبل طرحها على البرلمان، ويتولى بحث الآراء حول المشروعات المنفذة، لضمان تحقيقها الأهداف الاقتصادية، ومراجعة الأداء والكفاءة.
وطالب بإعادة النظر في القانون الذي يمنع الاعتراض على بيع الشركات العامة غير طرفي التعاقد، ومنح بنوك الاستثمار سلطة التفاوض مع المستثمرين في طرح الأصول العامة، المذكورة في وثيقة ملكية الدولة، والمعنية بتخارج الدولة من 79 نشاطا، وبيع أكثر من 32 شركة عامة خلال 3 سنوات.
أيد عدد من المشاركين طلب إنشاء المجلس الاقتصادي القومي، على غرار الموجود بالولايات المتحدة، يعمل كاستشاري لرئاسة الجمهورية، بالتوازي مع البرلمان والحكومة، وله أنياب من خلال قانون يحدد دوره في وضع أولويات الاستثمار ومراجعة المشروعات الاقتصادية وجدواها وسبل تمويلها قبل التنفيذ وأثناءه.
الإفراج عن السياسيين
قالت عضو مجلس النواب مها عبد الناصر إن الإفراج عن السياسيين الموجودين بالسجون وحرية التعبير وتداول المعلومات ستعزز مرتبة مصر في تقارير الشفافية الدولية والتي تراجعنا بها إلى المرتبة 130 من بين 180 دولة، وذكرت أن الظروف التي دفعت الجيش والمؤسسات السيادية منذ عام 2013 للدخول في مشروعات استثمارية قد تغيرت، مؤكدة أن الاقتصاد يحتاج إلى جهود المصريين جميعا، وهو ما يتطلب تحديد زمن التخارج الكامل للدولة من إدارة المشروعات الاقتصادية، وتقديم رسالة للمستثمرين الأجانب بالفرص المتاحة أمامهم دون مزاحمة من الدولة.
كما أيد مقرر اللجنة أحمد جلال دعوة عبد الناصر إلى ضرورة منع الدولة من دخول مشروعات جديدة تنافس القطاع الخاص في قطاعات تعهدت بالتخارج منها.
الاستثمار في البشر
أشار عضو مجلس الشيوخ محمد فريد إلى ضرورة توجه الدولة نحو الاستثمار في البشر، الذي يحتاج إلى نفقات طويلة المدى، وتعزيز تدخلها في إقامة المشروعات الخدمية، كالتعليم والصحة والبنية الأساسية، التي تزيد من كفاءة الاستثمار البشري وتبني ثقة المستثمرين في الدولة، وطالب بإعادة النظر في البنية الحاكمة للقطاع الخاص، وتعزيز الشفافية ووجود الحكومة في مشروعات الأمن الغذائي والثروة الحيوانية والزراعية، التي تتحكم في 50% من الطاقة الإنتاجية بالدولة.
كذلك طالب فريد بعودة تسمية رئاسة مجلس الوزراء إلى "رئاسة الوزراء" لما تحمله من دلالة وفقا للدستور بأن يكون رئيس الوزراء والوزراء لهم سلطات قادرة على حسم أعمال السلطة التنفيذية وفك الاشتباكات بين الوزارات، دون الحاجة إلى مؤسسات أخرى، وتفعيل دور المحاسبة السياسية بالمشاركة مع البرلمان.
اعترضت عضو مجلس الحوار الوطني فاطمة سيد أحمد على طلب النائب، قائلة: ليس لدينا وزراء مسيسون، وانتقدت ذكر المشاركين في الحضور سلبيات الحكومة دون تناولهم الإنجازات.
بيع الأصول
أعاد المنسق العام للحوار الوطني ضياء رشوان المناقشات بين الحضور حول "وثيقة طروحات الملكية العامة" التي تنفذها الحكومة منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حيث بين المشاركون أن الحكومة التزمت بعوائد بقيمة ملياري دولار قبل نهاية الشهر الحالي، بينما لم تحقق سوى 150 مليون دولار فقط، رغم انتهاء 6 أشهر من عمر الوثيقة التي ستنفذ على مدار 36 شهرا، بنسبة إنجاز 7.5% فقط.
أشار الحضور إلى وجود 3700 أصل غير منتج في ملكية الدولة تحتاج إلى إدارة كفوءة وشفافية والمزيد من الحوكمة.
وأكد المشاركون على ضرورة حسم مشكلة سعر الصرف للعملات الصعبة، باعتبارها أهم القضايا التي تحسم قرار المستثمرين المصريين والأجانب، مع ضرورة تبني الدولة سياسات تخفف الأعباء عن المستثمرين وفك الاشتباك بين الأجهزة الرقابية، والتخلص من الرقابة التي تفرضها الأجهزة الأمنية دون داع حاليا، والتي لا تتعارض مع الأمن القومي.
دعا عضو مجلس الشيوخ محمود سامي وزارة التخطيط إلى وقف صرف أي أموال على مشروعات حكومية دون عمل دراسة جدوى وتوفر التمويل اللازم لها قبل التنفيذ.
حماية رؤوس الأموال
ودعا عضو مجلس الشيوخ حازم الجندي إلى إيجاد بيئة تشريعية واضحة، توفر الوقت وتحمي المستثمرين من البيروقراطية، مشيرا إلى الفجوة الكبيرة بين آليات السياسات النقدية والسياسات المالية، وتضارب القرارات بين الجهات التابعة للدولة، التي تؤثر على تكاليف الاستثمار وأولوياته.
وشدد الخبير الاقتصادي مدحت نافع على أن الدولة "مدير فاشل" لأنها تفتقد إلى آلية المنافسة وهدف الربحية التي يحددها القطاع الخاص بدقة، وأشار إلى أن الشركات العامة تعاني من ضعف شديد في الاستثمارات ناتج عن تجريف مواردها لأنها لا تعيد توظيف استثماراتها.
وحذر نافع من اعتماد الدولة على الترويج لبيع الشركات العامة، باعتبارها مالكة لأرض مميزة، لأن المستثمر الحقيقي الذي يبحث عن شراكة بالمصانع والشركات لا يهتم بالاستثمارات العقارية الموازية لنشاطه قدر اهتمامه بتطوير الإنتاج.
أوضح ممثل الحزب الاشتراكي المصري أحمد حسن خليل أن استثمار الحكومة نحو 7 تريليونات جنيه في مشروعات البنية الأساسية بقروض محلية ودولية أدى إلى انفجار أزمة الديون.
وشدد على أن وثيقة ملكية الدولة تواجه تبعات أزمة الديون، لأن الحكومة التي أنشأت المشروعات بالديون الأجنبية أصبحت تتلهف على بيعها بالدولار لسداد التزاماتها للأجانب، ودعا إلى تخفيض قيمة الواردات بنسبة 25% سنويا من 87 مليار دولار حاليا، لدفع مستحقات الدائنين بدلا من الاعتماد على سداد الديون عبر المزيد من الديون وإدخال البلاد في دوامة القروض.