تتعرض الشعوب العربية لضغوط معيشية كبيرة وإذلال اقتصادي شبه متعمد وفقر وعوز وقهر مادي وبطالة قلما تتكرر في أي بقعة من بقع العالم، والدليل القرارات الأخيرة التي أصدرتها حكومات المنطقة، واستهدفت بالدرجة الأولى جيب المواطن الفقير ومتوسط الحال والتعامل مع هذا المواطن على أنه الحلقة الأضعف.
فما أن تواجه أي حكومة تراجعاً في الإيرادات العامة وعجزاً في موازنة الدولة حتى تسارع إلى فرض ضرائب وجمارك جديدة على المواطن، وزيادة الضرائب والرسوم القائمة، وخفض دعم السلع الرئيسية، ورفع أسعار السلع والخدمات بمعدلات قياسية، ومضاعفة أسعار الوقود والمواصلات العامة، وبيع أصول البلد للأجانب، ومنها مؤسسات حساسة مثل البنوك وشركات البترول والمطاحن والإسمنت وغيرها.
حدث ذلك في مصر والجزائر والمغرب وتونس وليبيا والأردن وسورية ولبنان، كما تكرر الأمر في السودان واليمن والعراق، حتى دول الخليج الثرية، فقد طاول مواطنيها ما طاول أقرانهم في الدول العربية التي لا تملك نفطاً ولا غازاً يدر مليارات الدولارات على خزانة هذه الدول كل شهر، وعلى سبيل المثال رفعت السعودية، أكبر منتج للنفط في العالم، أسعار السلع والوقود وفرضت رسوماً على الوافدين والحجاج والمعتمرين، وبدأت بيع أصول الدولة، ومنها أرامكو والمطارات والمستشفيات والمدارس والمطاحن، رغم امتلاكها احتياطيا من النقد الأجنبي يتجاوز 500 مليار دولار.
وفي مقابل حالة القهر الاقتصادي التي تتعرض لها الطبقات الفقيرة والمتوسطة في منطقتنا العربية، نجد أن الحكومات تمارس سياسة "الدلع" والتدليل المفرط للأثرياء ورجال الأعمال، فالأراضي الصناعية تُمنح لهؤلاء بالمجان ومزودة بالمرافق والبنية التحتية التي يتحمل كلفتها المواطن البسيط من دافعي الضرائب، ومشروعات الأثرياء معفية من الرسوم والضرائب لسنوات طويلة، واستثمارات هؤلاء الأثرياء في البورصة معفية من الضرائب والرسوم.
وامتدت سياسة "الدلع" للمستثمرين الأجانب سواء الذين يستثمرون أموالهم في أدوات ساخنة مثل البورصة وأذون الخزانة والسندات، أو أصحاب الاستثمارات المباشرة التي تعهدت لهم السلطات العربية بمعاملة تفضيلية ومميزة وتدبير النقد الأجنبي حال إذا ما قرروا الخروج من البلاد وتصفية استثماراتهم في أي لحظة.
الحكومات العربية فاشلة بلا ريب، فاشلة لاختيارها الحلول السهلة في معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية، فاشلة لاختيارها المواطن وهو الحلقة الأضعف لتعالج من خلاله أزمات عجز الموازنة العامة وتراجع الإيرادات، فاشلة لأنها تتعامل مع الملفات الاقتصادية بمنطق أمني وسياسي، فاشلة لأنها روجت لإرهاب مصطنع وصادرت أموال المعارضين السياسيين.
حكومات فاشلة لأنها لم تستطع عمل تنمية اقتصادية حقيقية يتم عبرها زيادة الصادرات وجذب الاستثمارات وتنمية قطاعات مدرة للنقد الأجنبي، مثل الصناعة والسياحة والخدمات، وبالتالي توفير فرص عمل لملايين الشباب العاطل والحد من معدلات الفقر.
فاشلة كذلك لأنها استسهلت الاقتراض الخارجي والمحلي والارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات التي راحت تملي شروطا وإملاءات مذلة، استسهال دون بذل مجهود يُذكر لزيادة الإيرادات العامة والاستفادة من الثروات المتاحة في الدولة خاصة الثروة البشرية.
ويبدو أن الشعوب العربية طفح بها الكيل من القرارات الحكومية وإجراءاتها التقشفية، ولذا بدأت التحرك للاعتراض على حالة الإفقار والذل الاقتصادي، تحركت لتسأل عن ثرواتها: أين ذهبت وفيما أنفقتها الحكومات؟
اليوم تحرك الأردنيون لرفض سياسة حكومة بلادهم الجبائية التي كبلتهم بالضرائب ورفعت الدعم عن الخبز والسلع الرئيسية، حيث نظمت 33 نقابة مهنية إضرابات شاملة في عموم المملكة رفضا لقانون الضرائب الجديد والزيادات الأخيرة في الأسعار.
وأمس تحرك الشعب المغربي عبر تنظيم مقاطعة جماعية للسلع التي شهدت زيادات ملحوظة في الأسعار خلال الفترة الماضية، وأمتدت المقاطعة لسلع مصانع وشركات أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي.
وأول من أمس تحرك الشارع الجزائري والسوداني اعتراضاً على زيادة أسعار الوقود والسلع الغذائية وانهيار العملة الوطنية مقابل الدولار، والبقية تأتي، وتكرر الموقف في لبنان قبل شهور.
ويبدو أن بعض الحكومات العربية بدأت تستشعر خطر تحرك الشارع رفضا لسياساتهم التقشفية، لذا ألغت قرارات بزيادة الأسعار والضرائب كما حدث في الجزائر وتونس والأردن مؤخراً.
الشعوب، وليست الحكومات، هي من يدفع الضرائب والجمارك والرسوم، وهي من تمول الخزانة العامة للدولة، وهي المالكة لثروات الدولة، وبالتالي فإن كلمتها هي القول الفصل في أي سياسات يتم اتخاذها من قبل الحكومة.