نموذج الخدمة الصحية الوطنية في المملكة المتحدة NHS أمام اختبار التمويل

26 أكتوبر 2024
ستارمر مع أفراد من هيئة الخدمة الصحية الوطنية، لندن في 21 أكتوبر 2024 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر تحديات في إصلاح منظومة NHS بسبب نقص التمويل وتدهور الخدمات، مع التركيز على تمويل الإصلاحات دون زيادة الضرائب على الطبقات العاملة.

- تأسست NHS عام 1948 كنموذج للرعاية الصحية المجانية، لكن التغيرات الديموغرافية وزيادة متوسط الأعمار رفعت تكاليف الرعاية، مما أدى إلى فجوة استثمارية بلغت 37 مليار جنيه إسترليني.

- يتطلب إصلاح NHS استثمارات ضخمة تُقدر بـ 38 مليار جنيه إسترليني خلال خمس سنوات، مما يضع حكومة ستارمر تحت ضغط لإيجاد حلول تمويلية، ويؤثر على مستقبل الحزب في السلطة.

يستثمر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر جزءاً كبيراً من رأسمال ما يسمى بـ"شهر العسل السياسي" لحكومته في اتخاذ إجراءات اقتصادية جريئة، ربما يراها البعض صادمة، لقاعدته الانتخابية. بدأت السلسلة بتصويت مجلس العموم على إلغاء "دعم التدفئة" الذي تقدمه الدولة للمتقاعدين، ثم تطورت للتوجه الراهن نحو إصلاح منظومة الخدمة الصحة الوطنية "NHS" التي تعد خطاً أحمر بالنسبة لغالبية البريطانيين، لكنها مهددة بالانهيار. 

بيان ستارمر عن إصلاح الخدمة الصحية، كان بالنسبة لكثيرين مبهماً وضمن خطوط عريضة أهمها "لا تمويل دون إصلاح"، وكأنه يبعث برسالة إلى هذا القطاع لكي يتقبل قرارات قد تكون موجعة، لكن السؤال الذي يتحدث عنه الجميع بصوت عالٍ هو: من أين ستمول حكومة العمال هذه الإصلاحات التي من المفترض أن تستمر لعشر سنوات قبل أن تؤتي ثمارها كاملة؟ 

ورغم أن الحكومة الجديدة لا تزال تلقي باللوم على حكومة المحافظين السابقة في التدهور الذي وصلت إليه خدمة الصحة الوطنية فإنها قد تعجز عن ممارسة ذلك لفترة طويلة، خاصة أن وعودها السياسية لا تمنحها خيارات كثيرة. إذ تشير الأرقام إلى أن NHS يحصل حالياً على 41 بنساً (سترتفع إلى 43 بنساً) من كل جنيه تخصصه الحكومة للخدمات العامة في بريطانيا. ولزيادة تلك المخصصات يفترض أن تتحصل الحكومة على مصادر إضافية، ومع تعهدها بعدم زيادة الضرائب على الطبقات العاملة، يتساءل كثيرون عن حجم الإنفاق المطلوب لإصلاح الخدمة الصحية الوطنية ومن أين ستوفره الحكومة إذا أرادات كما يقول ستارمر، إعادة تشكيلها لتناسب المستقبل وتنافس النماذج الأوروبية. 

نموذج فريد للخدمات الصحية البريطانية NHS 

على مدى ما يزيد عن 70 عاماً، قدمت خدمة الصحة الوطنية في بريطانيا NHS نموذجاً فريداً من الرعاية الصحية، حرصت كل الحكومات منذ ذلك الحين على احترامه وتطويره. تأسست الخدمة في يوليو/ تموز عام 1948 على أيدي الحكومة العمالية بقيادة كليمنت أتلي. لكن فكرتها الجنينية ولدت من رحم الحرب العالمية الثانية، فعندما كانت الحرب تدق طبولها في القارة الأوروبية عام 1938 قررت الحكومة البريطانية إدراج كل المستشفيات الخاصة والأهلية وقتها ضمن نظام مركزي هو "خدمة الطوارئ الطبية" تحسباً لأعداد المصابين القادمين من جبهات القتال. 

إعلان NHS كخدمة طبية مجانية للجميع كان تدشيناً لمرحلة "دولة الرفاه" في بريطانيا المثخنة بجراح وخسائر الحرب. ويجادل الباحث أندرو سيتون، في كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، في كتابه الجديد عن تاريخ NHS بأن الخدمة قد جاءت مناسبة لوقت تأسيسها وبهدف دعم القوة العاملة في بريطانيا، التي تناقصت أعدادها بفعل الحرب، بمقومات الرعاية الطبية التي تمكنها من إعادة بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب، ومن ثم كان تدخل الدولة لتأميم المستشفيات المملوكة للبلديات والجمعيات الخيرية هو الأسلوب الأمثل لضمان نجاح الخدمة الجديدة. 

وعلى مدى عقود لم يكن هذا النموذج موضع تجاذب سياسي بين الأحزاب الكبرى رغم اختلاف توجهاتها الاقتصادية، حتى جاءت سنوات الثمانينيات خوفاً من أن يقع الـ NHS تحت مطرقة التوجه الرأسمالي لرئيسة وزراء المحافظين مارغريت ثاتشر. وقتها، كما يقول المؤرخ سيتون، نشط اليسار في التحذير من تبني "النموذج الأميركي" في الرعاية الصحية الخاصة، وتحولت حماية النموذج البريطاني إلى واجب وطني. وبمرور الوقت أصبحت خدمة الصحة الوطنية واحدة من قيم المجتمع البريطاني التي يتعين على السياسيين إعلان ولائهم لها وتطويرها إذا قيض لهم أن يتولوا منصباً حكومياً. 

هوة تمويل خدمة الصحة الوطنية  

كان رهان الآباء المؤسسين للخدمة الصحية الوطنية يتمثل في أن توفير رعاية شاملة للبريطانيين هو أقصر الطرق لوقايتهم من الأمراض ومن ثم فإن تكاليف هذه الخدمة ستقل باضطراد في ظل مجتمع سليم صحياً. لكن ما غاب عن هذه الرؤية هو أن الرعاية الصحية ضمنت متوسط أعمار أطول. ففي عام 1948، سنة تأسيس النظام، كان متوسط أعمار النساء 65 عاماً ليصبح الآن 80 عاماً، وكان متوسط أعمار الرجال 70 عاماً ليصبح 75 عاماً في ظل الرعاية الصحية الكاملة.

هذا التغير أدى لتزايد أعداد كبار السن في المجتمع البريطاني ما يعني تفاقم فاتورة الرعاية الصحية لهم. وحسب أرقام حديثة نشرتها صحيفة فايننشال تايمز، فإن نسبة مخصصات نظام الخدمة الصحية من إجمالي الناتج البريطاني ارتفعت من 2.24 % في عام 1948 إلى 9.17 % في عام 2022. 

رغم ذلك، تؤكد دراسات متعددة أن نقص التمويل هو السبب الرئيسي في الحالة المنهارة التي وصلت إليها الخدمة الصحية في بريطانيا. أحد هذه التقارير صدر قبل أيام وأعده الجراح المعروف آرا دارزي، وهو عضو مستقل في مجلس اللوردات بتكليف من وزارة الصحة، وأشار إلى أن فجوة الاستثمار الرأسمالي (في أصول المستشفيات وتجهيزاتها) التي عانت منها الخدمة الصحية خلال الفترة من 2010-2020 بلغت 37 مليار جنيه إسترليني (نحو 38 مليار دولار) وهي الفترة التي تسمى "العقد الضائع" في NHS. ويعزو التقرير أسباب ذلك إلى خطط التقشف الحكومية، ووباء كورونا إضافة إلى "التخبط" في قرارات إعادة التنظيم التي لم تستقر على توجه واضح تحت حكم المحافظين. 

يدفع "المحافظون" ومؤسساتهم البحثية عن أنفسهم هذه التهمة، مستشهدين بما قدمه رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون من حماية مطلقة لمخصصات وزارة الصحة في ظل الأزمة المالية التي أدت لخفض مخصصات جميع الخدمات العامة الأخرى. لكن الخبراء يردون أن تقليص المحافظين لمخصصات الرعاية الصحية والاجتماعية والمجالس البلدية، التي تقدم الدعم للمعوزين والمسنين، هو الذي أدى لانهيار المنظومة الصحية.

صحة بريطانيا حسب التقارير الرسمية تتراجع مقارنة مع جيرانها في الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية الكبرى بمعدل مضطرد خاصة في مجالات الصحة العقلية ووفيات السرطان. ويرى البروفيسور سير مايكل مارموت، الباحث في آثار المحددات الاجتماعية مثل الإسكان والتغذية، في حديث مع فايننشال تايمز، أنه بدءا من عام 2010 توقف التحسن في متوسط الأعمار في بريطانيا وتزايدت الهوة الاجتماعية، فانخفض متوسط الأعمار للفئات الأفقر. هذا التراجع في نظر الخبير البريطاني لم يكن نتيجة لوباء كورونا وإنما كان موجوداً قبل وتزايد مع تفشي الجائحة. 

فاتورة إصلاح الخدمة

يجمع الخبراء الاقتصاديون والتقارير الحكومية على أن إصلاح نظام الخدمة الصحية سيكون الفاتورة الكبرى التي سيتعين على حكومة العمال بقيادة كير ستارمر دفعها. الهدف معلن وواضح، فتحسين صحة البريطانيين ستتحول إلى مردود اقتصادي في النمو والإنتاج إذا لم يكن اليوم، فلاحقاً وعلى المدى البعيد. وبحسب تقرير حديث صادر عن مكتب مسؤولية الخزانة، فإن الإنفاق على الصحة العامة يجب أن يصل إلى 14.5% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2073-2074 مقارنة بمستواه في الموازنة الراهنة والذي يبلغ 7.9%. ويشير التقرير إلى أن تعزيز الإنفاق على قطاع الصحة من شأنه أن يؤدي لانخفاض بنسبة 40% في ديون بريطانيا بحلول سبعينيات القرن الحالي. 

لكن المعضلة تكمن في المدى القريب، فكم يكلف إصلاح النظام الصحي ومن أين؟ تقول مؤسسة الصحة البريطانية "هيلث فاونديشن" إنه سيتعين على بريطانيا أن تنفق قرابة 38 مليار جنيه إسترليني على مدى السنوات الخمس المقبلة بالإضافة إلى الموازنة المقررة سنوياً، لكي تخرج خدمة الصحة الوطنية من كبوتها. وتشير دراسة للمؤسسة إلى أنه بعد سد هذا العجز يتعين أن تزيد المخصصات السنوية للإنفاق الصحي عن مستواها الراهن بنسبة 3.4 % سنوياً حتى عام 2030.

وتبلغ مخصصات الخدمة الصحية في الموازنة الراهنة والتي تنتهي في إبريل/ نيسان المقبل، حوالي 192 مليار جنيه إسترليني. لكن حكومة ستارمر تتعرض لضغوط لزيادة مخصصات النفقات العامة في شتى المجالات وليس الصحة فقط، وفي انتظار صدور الموازنة الجديدة مع نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حذرت وزيرة الخزانة راتشيل ريفز من أنها تواجه فجوة تمويلية ورثتها عن حكومة المحافظين تقدر بحوالي 22 مليار جنيه إسترليني. 

تمثل مصادر التمويل اللازمة لإصلاح الخدمة الصحية سؤالا حائرا بالنسبة لرئيس الوزراء الذي أقر في خطابه الأخير بأن "الأموال وحدها ليست كافية لإصلاح NHS"، وهو ما يندرج حسب مراقبين في الرواية نفسها التي عمدت على مدى عقود إلى الحديث عن "إعادة التنظيم" خوفاً من إعادة النظر في "طريقة تمويل الخدمة الصحية". ويرى خبراء في مجال الصحة أنه قد لا يكون أمام حكومة العمال سوى خيارين مرّين، الأول زيادة الضرائب لتمويل تلك الإصلاحات، والثاني هو إعادة النظر في نموذج تمويل الخدمة الصحية التي تعتمد بالأساس على مخصصات وزارة الخزانة بشكل سنوي. 

وترى أنيتا تشارلزوورث، كبيرة المحللين في "هيلث فاونديشن"، أن قطاعاً كبيراً من البريطانيين، بلغ 47% حسب مسح أجرته المؤسسة، لا يمانعون في زيادة الضرائب للحفاظ على المستوى الراهن للخدمة الصحية بينما يؤيد 11% خفض مخصصات النفقات في قطاعات أخرى لتمويل الخدمة الصحية، ويؤيد 9% خفض مستوى الخدمات التي تقدمها الخدمة الصحية لتجنب زيادة الضرائب. ويشير كثيرون هنا إلى أن بريطانيا تعتبر الأدنى من حيث معدلات الضرائب بين نظرائها الأوروبيين وهو ما يؤدي إلى تدني مستوى الخدمات وارتفاع أسعار المواصلات والإسكان قياسا بأوروبا. 

أما الخيار الآخر المتمثل في تعديل مصادر التمويل فقد تعالت أصوات أنصاره، خاصة من صفوف المحافظين، في الأعوام الأخيرة. البعض يطالب بإدخال المستشفيات الخاصة ضمن منظومة التأمين الصحي والآخرون يطالبون باعتماد النموذج الأوروبي في تمويل الرعاية الصحية، وهي فكرة لقيت تأييداً من وزير الصحة السابق في حكومة المحافظين ساجد جافيد.

يقضي هذا النموذج الذي تتبعه معظم الدول الأوروبية باعتماد فكرة التأمين الاجتماعي بحيث يتم اقتطاع نسبة من الرواتب تحت بند الرعاية الصحية، يضاف إليها جزء يدفعه صاحب العمل. غير أن كثيرين يعارضون هذا النموذج بدعوى أنه لا يتناسب مع الثقافة البريطانية التي اعتمدت نموذج NHS الذي ظل ناجحاً لعقود، ومن ثم المطلوب تطويره وليس هدمه. وبعيداً عن سؤال التمويل، الذي يظل أساسياً، سيبقى إصلاح أو إعادة تنظيم الخدمة الصحة في بريطانيا محدداً رئيسياً لمستقبل حزب العمال في السلطة، فتجاوز هذا التحدي، ولو جزئياً خلال فترتهم الراهنة، سيضمن لهم فترة أو فترات أخرى في الحكم، كما حدث مع توني بلير، أما فشله فقد يعني نهاية التجربة. 

(الجنيه الإسترليني= 1.3 دولار)

المساهمون