تهاوي العملات أو تراجعها الحاد ليس شراً مطلقاً كما يظن البعض، وليس ترجمة لانهيار اقتصاد الدول كما يروج آخرون، وأحياناً يكون ضعف العملة المدخل الطبيعي لزيادة تنافسية الاقتصاد وإيرادات النقد الأجنبي، وتكوين احتياطات دولارية ضخمة لدى البنوك المركزية.
لذا، تحرص بعض الدول على إضعاف عملاتها الوطنية والحيلولة دون تقويتها، لأنّ قوة العملة تكون في هذه الحالة مضرة بالاقتصاد، والنماذج كثيرة: الصين واليابان وروسيا وسنغافورة وغيرها.
وقبل أيام قال محافظ بنك اليابان المركزي، هاروهيكو كورودا، إن الانخفاض في سعر الين في الآونة الأخيرة ليس أمراً سلبياً لاقتصاد البلاد، وإنّه على الرغم من أنّ هبوط الين يرفع تكلفة استيراد المواد الخام، فإنه يرفع قيمة الصادرات والأرباح التي تجنيها الشركات اليابانية في الخارج.
الصين واليابان أبرز الدول التي تعمل على إضعاف عملاتها المحلية بهدف زيادة تنافسية الاقتصاد القومي
وعندما واجهت اليابان، ثالث قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، أزمة مالية واقتصادية حادة قبل أكثر من 10 سنوات، على الرغم من النمو الذي سجلته في عام 2012، لجأت إلى سياسة حرب العملات وإضعاف عملتها الين بهدف زيادة الصادرات، وبالتالي رفع معدل النمو ومعالجة عجز الميزان التجاري.
والصين، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم، تحرص على إضعاف عملتها اليوان، لإحداث قفزة في الصادرات وزيادة احتياطي الدولة من النقد الأجنبي، بل إنّها دخلت في حرب عملات مع الولايات المتحدة، وكم رأينا رؤساء للولايات المتحدة يهاجمون سياسة إضعاف الصين عملتها، ويطالبونها بالتوقف عن هذا السلوك.
بل إن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما هاجمت بشدة خفض الصين لعملتها في العام 2010، وقالت إن الإبقاء على اليوان مقوما بأقل من قيمته الحقيقية بما يصل إلى 40%، يلحق ضررا فادحا بالاقتصاد الأميركي بما في ذلك تسريح آلاف العمال من وظائفهم.
ويتكرر هذا السيناريو في الدول ذات القاعدة الإنتاجية والصناعية القوية التي تحرص على اضعاف عملاتها والسماح لها بالانخفاض عند حد معيَّن، ولا تعتبر هذا الانخفاض مصدر خطر، بل مصدر قوة.
ذلك لأن إضعاف العملة يحقق لها أهدافاً عدة، منها زيادة الفرص التنافسية لصادراتها في السوق العالمية مع زيادة تكلفة الواردات، إضافة إلى زيادة تدفقات الاستثمارات الأجنبية والسياحة واحتياطياتها من النقد الأجنبي.
وخفض قيمة العملة عن قصد أمر متعارف عليه في العالم وشائع في أسواق الصرف الأجنبية، وهذا الأمر يخص فقط الاقتصادات القوية ذات القاعدة الإنتاجية والصناعية التي لديها فرصة لإحداث قفزات في إيراداتها الدولارية.
إضعاف العملة يحقق للدول أهدافاً عدة، منها زيادة الفرص التنافسية لصادراتها ورفع تكلفة الواردات، وزيادة تدفقات الاستثمارات الأجنبية والسياحة
لكن الأمر لا ينطبق على الدول التي لا تتوافر لديها هذه القاعدة، وصادراتها غير مرنة وغير قابلة للزيادة أو أنها تقليدية، وتستورد معظم احتياجاتها من الخارج، وبالتالي فإنّ أي خفض في قيمة العملة لن يعود إيجاباً على صادراتها، ولن يحد من وارداتها، بل سيزيد تكلفة الاستيراد بشكل ملحوظ.
الدول ذات الاقتصادات القوية تقود حرب عملات شرسة، وتُخفض قيمة عملاتها عن قصد لتحفيز اقتصادها على حساب دولة أخرى، وتعمل على إحداث طفرة في قيمة صادراتها، لأن هذا يحفز النمو الاقتصادي، ويرفع كلفة الواردات، ويجعل المستهلك يميل نحو اختيار المنتج المحلي بدلاً من المنتجات المستوردة، وهذه كلها مزايا للاقتصاد.
أما في دولنا العربية، فنجد أنّ الحكومات تصاب بالذعر الشديد عندما تتهاوى قيمة عملاتها الوطنية، ذلك لأنّ هذا التهاوي ليس عن عمد، بل تكون الحكومات مرغمة عليه.
وينتقل هذا الذعر للمواطن الذي يسارع للتخلص من عملته المحلية ويهرول نحو حيازة العملات الرئيسية الأخرى مثل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني، وهي الظاهرة التي يطلق عليها اسم "الدولرة".
كما تنتقل حالة الذعر تلك للأسواق التي تشهد موجة من قفزات الأسعار والتضخم وشراء الأصول من أراضٍ وعقارات وسيارات وذهب وفضة ومعادن، بل وحيازة سيارات وأدوات كهربائية، والتخلص من أي أصول تتعلق مباشرة بالعملة مثل الودائع وأذون الخزانة والسندات وشهادات الاستثمار.
ومع تردد الحكومات في معالجة حالة الذعر تلك، يتحول المجتمع كله إلى مجموعة من المضاربين وتجار العملة وسماسرة الدولار، ويسارع الجميع نحو المضاربة في سوق الصرف، لأنها الأكثر ربحا، بل وربحها يفوق أرباح تجارة المخدرات.
العملات العربية تتهاوى ليس بسبب رغبة الحكومات في زيادة الصادرات، لكن بسبب الضغوط الشديدة التي تتعرض لها وعدم توافر موارد دولارية كافية للدفاع عنها
وفي النهاية تتهاوى قيمة العملة المحلية وتفقد معظم قيمتها، وليس 5% فقط كما يحدث في الاقتصاديات المنتجة، وهنا يحدث التعويم الذي يفتح باب جهنم على المواطن والاقتصاد والأسواق، إذ تعقبه قفزات في الأسعار وموجات تضخم وتآكل في القدرة الشرائية للمواطن وانهيار المدخرات المحلية.
حدث ذلك في مصر قبل تعويم الجنيه في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016، كما حدث في لبنان والسودان والعراق وسورية واليمن وغيرها من الدول التي تهاوت عملاتها في السنوات الأخيرة، ليس بسبب رغبة الحكومات في زيادة الصادرات، لكن بسبب الضغوط الشديدة التي تتعرض لها العملة المحلية وعدم توافر موارد دولارية كافية لدى السلطات للدفاع عن العملة وإحباط تلك المضاربات الضارة.