هكذا تستفيد تركيا من الصومال اقتصادياً للنفاذ إلى البحار العميقة والتقدم نحو منطقة الإندو- باسيفيك
- الاتفاقية تعكس تنامي نفوذ تركيا في القرن الأفريقي وتأتي في سياق توترات إقليمية، معززةً استثماراتها ونفوذها في منطقة استراتيجية، وتشمل التخطيط المشترك لعمليات برية وبحرية وجوية.
- تواجه تركيا تحديات أمنية ومنافسة إقليمية، لكن الاتفاقية توفر فرصاً اقتصادية واستراتيجية، معززةً العلاقات الثنائية بين الصومال وتركيا وتعكس طموحات تركيا الاستراتيجية في القرن الأفريقي.
أقر مجلس الوزراء الصومالي، قبل أسابيع، اتفاقية بحرية جديدة وصفها بالتاريخية مع تركيا في مجال الدفاع والتعاون الاقتصادي، من شأنها توفير الحماية لمدة 10 سنوات للمياه الإقليمية الصومالية، وفتح الطريق لإمكانية إحداث ثورة داخل المنظومة الأمنية للصومال، التي شهدت تغيرات وإصلاحات جذرية في الماضي القريب. هذه الاتفاقية التي سبقها اتفاق آخر خاص بالتنقيب عن النفط والغاز، تمنح تركيا سلطات شاملة على قطاع الدفاع وإدارة المناطق البحرية للصومال، ومن المنتظر أن تحصل أنقرة على 30% من إيرادات المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلاد مقابل خدمات الأمن البحري التي ستقدمها.
وتشدد الاتفاقية على أهمية مكافحة عمليات الصيد غير المشروعة في المياه الإقليمية الصومالية، والتي تكلف البلاد ملايين الدولارات، في حين أن الجهود المبذولة لمواجهة هذه المشكلة يبدو أنها تسير في طريق مسدود، كما يرى بعض المراقبين. وتندرج هذه الاتفاقية، وفقاً لخبير السياسة العسكرية الإيطالي فرنشيسكو فراسكا، في إطار تصاعد حدة التوتر بين الصومال وإثيوبيا الذي أعقب مذكرة التفاهم التي وقعتها هذه الأخيرة في أول يناير/كانون الثاني الماضي مع جمهورية أرض الصومال (المعلنة من جانب واحد)، والتي أدانتها مقديشيو بوصفها انتهاكاً لسيادتها ووحدة أراضيها.
وأوضح فراسكا، في مقال نشرته صحيفة "نوتيتسييه جيوبوليتيكيه" الإلكترونية الإيطالية بتاريخ 7 إبريل/نيسان تحت عنوان "المنظور الجيوسياسي لموانئ القرن الأفريقي"، أن "إثيوبيا تبحث عن 20 كيلومتراً في البحر الأحمر داخل أرض الصومال من أجل إنشاء قاعدة عسكرية وميناء. وهذا الاتفاق يضمن لأديس أبابا النفاذ البحري والتجاري إلى الموانئ الواقعة على طول سواحل أرض الصومال، وذلك في مقابل الاعتراف باستقلالها.
ورأى أن "تركيا، التي تلت قطر في استثماراتها في موانئ القرن الأفريقي، ولكن بمقاربة عسكرية أكبر، تقدم نفسها مجدداً لاعباً محورياً في الصومال. والحقيقة هي أن أنقرة تقاتل، في سياق من المنافسة مع الإمارات ودول خليجية أخرى، من أجل أن يكون لها نفوذ في بلد استراتيجي يطل على المحيط الهندي وخليج عدن، معبر للبحر الأحمر".
آفاق واسعة لاتفاقية تركيا مع الصومال
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام قد وصفت التعاون بين تركيا والصومال كاتفاق حول مكافحة القرصنة وعمليات الصيد غير المشروعة وتهريب البشر، فإن ثمة من يرى في الاتفاقية مجالات بعينها أكثر أهمية. ومن هؤلاء المحلل الجيوسياسي الإيطالي إيمانويلي روسّي الذي أوضح أن البلدين أعربا عن استعدادهما للتخطيط والتنفيذ المشترك لعمليات برية وبحرية وجوية في نطاق أوسع لتعاون شامل.
وأضاف روسّي، في تحليل حديث نشره مركز أبحاث "ميد-أور" التابع لمجموعة ليوناردو الإيطالية لصناعات الدفاع، تحت عنوان "الاتفاق بين أنقرة ومقديشيو. تركيا تعزز مركزها بين البحر الأحمر والقرن الأفريقي"، أن "البلدين سوف يشتركان أيضاً في بناء سفن ويبنيان ويديران موانئ ومنشآت جديدة، وسوف يتخذان التدابير القضائية والقانونية الضرورية في ما يتعلق بالملاحة البحرية. وعلى صعيد الاستثمارات، فإن الاتفاق الحالي يتضمن استغلال التقنية التركية ويسمح لأنقرة أن تطرح نفسها محاوراً لدول ثالثة مهتمة بتنفيذ أنشطة في الصومال، التي تحظى قيمتها الجيوسياسية باعتبار كبير ليس فقط في الخليج وإنما أيضاً في الصين وروسيا وأوروبا والولايات المتحدة".
وأشار إلى أن "الشركات التي سوف تمارس أنشطتها في المجالات واسعة النطاق التي شملتها الاتفاقية، سوف يتعين عليها الحصول على موافقة تركيا، التي سوف يشكل تقديمها المساعدة للصومال في مواجهة الاحتباس الحراري علاوة على إقامة البنى التحتية البحرية، إطاراً لاتفاقية ترسم ملامح عملية تأثير جيوستراتيجي".
طموحات تركيا من التعاون مع الصومال
وتابع أن "هذه الاتفاقية مع الصومال تثري البعد البحري للدبلوماسية العامة لأنقرة Ankara Consensus في أفريقيا، وبالتحديد في منطقة حاسمة، في حين أن الاتصالات الأخيرة مع القاهرة تخلق ضفة أخرى في ممر البحر الأحمر، الذي من الممكن أن يشهد في المستقبل القريب تنويعاً عبر إطلاق ممر IMEC الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي ترغب كل من تركيا ومصر أن يكون لهما دور فيه، لكيلا ينتهي بهما المطاف خارج نطاق المسارات الجيواقتصادية العالمية الجديدة".
واعتبر أن "كل ذلك يحصل في حين تثبت تركيا قدرتها على التحرك في النطاق الذي كانت تعتبره دائماً تحدياً وطموحاً وحلماً استراتيجياً: البحر. والحقيقة هي أن هذه الاتفاقية تأتي في أعقاب الأنشطة التي نفذتها في البحر الأسود من أجل إنقاذ شحنات القمح الأوكراني المتجهة إلى أفريقيا". وقال "إذا أخذنا في الاعتبار التعاون مع (حكومة) طرابلس، فسوف تتضح لنا خطة أنقرة لكي تصبح لاعباً حاسماً في البحر المتوسط الموسع؛ المنطقة التي تفتح الطريق أمام الأناضول إلى بقية العالم".
L’intesa con la #Somalia permette ad #Ankara di aprire l’#Anatolia al resto del mondo attraverso il #mare, rafforzando la sua presenza in #Africa e nel #Mediterraneo allargato. Il punto di @de_f_t 👇https://t.co/lhZgLiubmx
— Fondazione Leonardo Med-Or (@fondazionemedor) March 6, 2024
وفي تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، أعرب روسّي عن اعتقاده أن "منطقة القرن الأفريقي جددت مركزها المحوري أيضاً نتيجة للأزمة التي فرضتها الهجمات العسكرية للحوثيين على المسارات البحرية الإندو متوسطية. والحقيقة هي أن هذه المنطقة تمثل قطباً جيو استراتيجي وجيو اقتصادي تغري الجميع بترك بصماتهم العسكرية فيه"، مشيراً إلى أنه "ليس من قبيل المصادفة أن تقيم الصين أولى قواعدها العسكرية خارج أراضيها في جيبوتي، وهو ما سبقتها إليه اليابان التي كانت قد افتتحت هناك قاعدة عسكرية قبل بدء عملية إعادة التسلح الاستراتيجية".
وتابع أن "تركيا تدرك تمام الإدراك أن توطيد علاقاتها مع الصومال يعني إمكانية أن يكون لها قاعدة عسكرية هناك، أو بالأحرى تحقيق طموحها التاريخي في النفاذ إلى البحار العميقة والتقدم نحو منطقة الإندو- باسيفيك، عبر استغلال الدبلوماسية العامة لأنقرة في أفريقيا". وختم بقوله إن "ثمة لاعباً آخر يسعى لأن يكون له ضفة بين موانئ القرن الأفريقي، وهو روسيا، التي تبحث حالياً عن قوالب جديدة للتعاون مع إريتريا، في أعقاب فشل مشروع بورسودان".
من جانبها، رأت فاليريا جانّوتّا، المدير العلمي لمرصد تركيا في مركز دراسات السياسة الدولية بروما CeSPI، أنه "يتعين قراءة الاتفاقية من منظور دفاعي في ما يخص الصومال والتي ستضمن التنفيذ الاعتيادي لأنشطتها التجارية والبحرية. وعلى الجانب التركي، سوف تحصل أنقرة على 30% من إيرادات المنطقة الاقتصادية الخالصة الصومالية".
روابط تاريخية بين تركيا والصومال.. وعوائد اقتصادية
وشددت جانّوتّا، في تصريح لـ"العربي الجديد"، على أن "كل هذا يجب أن يُفهم على أنه تتويج للعلاقات الثنائية الراسخة بين البلدين بالفعل، والتي ترى في تركيا شريكاً موثوقاً به، بالنظر أيضاً إلى ارتباطها المؤسسي بالغرب وحلف شمال الأطلسي، ومجرباً بالفعل على مدى الروابط التاريخية"، مشيرة إلى أن "الصومال كان، في حقيقة الأمر، محور التركيز الرئيسي لسياسة تركيا الأفريقية التي بدأت في عام 2011، إذ زار رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء آنذاك، البلاد متعهداً بالالتزام بعملية إعادة الإعمار أيضاً، وعلى وجه الخصوص من منظور المساعدات الإنسانية، مع التركيز على توطيد العلاقات التجارية وعملية بناء الدولة الصومالية والتعاون العسكري".
وأوضحت أن "المساعدات الإنسانية والتنموية التي قدمتها تركيا للصومال تجاوزت المليار دولار، وتغطي عدة قطاعات، من بينها البنى التحتية والصحة والتعليم. وقد أسهم العديد من رواد الأعمال الأتراك في تنمية البلاد مقتفين أثر المبادرة الإنسانية. واليوم، تُدار أنشطة المطارات والموانئ من الشركات التركية التي استثمرت بكثافة في أعمال البنى التحتية"، مضيفة أن "تركيا أنشأت في مقديشو أكبر مركز للتدريب العسكري TURKSOM، لدعم قطاع الأمن في الصومال.
علاوة على ذلك، تشارك البحرية التركية بالفعل في عمليات في خليج عدن وقبالة سواحل الصومال، في إطار قوة المهام المشتركة-151 ’Combined Task Force-151‘، التي شُكلت في عام 2009 للتصدي لهجمات القرصنة".
وخلصت الخبيرة الإيطالية بالشأن التركي إلى أن "الاتفاقية الموقعة مع الصومال سوف توفر، على المستوى الاقتصادي، رافعة مهمة لتعزيز الوجود التركي في سوق البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وعلى الرغم من ذلك، يتطلب اتفاق التنقيب عن النفط والغاز استثمارات كبيرة من تركيا، سواء من خلال الحكومة أو عقود الرعاية أو الاستثمارات الخاصة".
مخاطر ومحاذير تركية إزاء الاتفاقية مع الصومال
وفي تعليقها على الاتفاقية الموقعة بين الصومال وتركيا، ذكرت البروفيسورة أَلَم أيريجا تَبَجِكلي أوغلو، أستاذة الدراسات الأفريقية بجامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية، أن "تركيا تعمل على تعزيز علاقاتها مع دول القرن الأفريقي الأخرى. وعلى سبيل المثال، شهدت العاصمة التركية في 19 فبراير/شباط الماضي توقيع وزير الدفاع التركي ونظيره الجيبوتي على اتفاق للتعاون في مجال التدريب العسكري والذي تضمن تعاوناً مالياً ومساعدات نقدية للبلد الذي يحظى بموقع استراتيجي عند مدخل قناة السويس يمنحه مركزاً محورياً في البحر الأحمر".
ولفتت تَبَجِكلي أوغلو، في دراسة نشرها مركز دراسات السياسة الدولية بروما CeSPI في مارس/آذار الماضي، تحت عنوان "الملاحة في الديناميات الإقليمية للاتفاق البحري بين تركيا والصومال"، إلى أن "تركيا تحظى بعلاقات وثيقة أيضاً مع إثيوبيا، إذ وقع البلدان في عام 2021 على اتفاق للتعاون العسكري.
يشار إلى أن المسيّرات التي اشترتها إثيوبيا من تركيا لعبت دوراً محورياً في عملية استعادة السيطرة على العاصمة أديس أبابا من قبضة قوات التيغراي المتمردة في عام 2022. وبالنظر إلى كونها من بين أكبر الشركاء التجاريين لتركيا في القارة السمراء، تعتبر إثيوبيا سوقاً مهماً ومقصداً واعداً للاستثمار عند المستثمرين الأتراك".
وأوضحت تَبَجِكلي أوغلو أن "تورط تركيا في صراعات إقليمية يبرز من بين المخاطر المرتبطة باتفاقها الأخير مع الصومال. وعلى الرغم من ذلك، فإن أنقرة لا نية لها في استعداء أديس أبابا، ولا تسعى للدخول في أي مواجهة مباشرة أو غير مباشرة معها". ورأت أن "المنافسة مع لاعبين إقليميين آخرين يبدو أنها تقلص من مساحة المناورة في ما يخص تركيا وتضفي مزيداً من التعقيد على علاقاتها في منطقة القرن الأفريقي. والحقيقة هي أن دول الخليج، وعلى وجه الخصوص الإمارات والسعودية لديهما استثمارات مهمة ومصالح استراتيجية أخرى في البحر الأحمر والقرن الأفريقي اللذين يقعان في نطاقهما الجغرافي المباشر. وتطمح كلتا الدولتين إلى إعادة رسم المعالم الجيوسياسية للمنطقة بطريقة ما".
وبالعودة إلى اتفاق التنقيب عن النفط والغاز في الصومال، قالت الأكاديمية التركية إنه "يتعين على تركيا أيضاً أن تعطي أولوية لضمان أمن الأفراد الذين سيعملون في منشآت منطقة في مرمى هجمات القرصنة وغيرها من الأنشطة غير القانونية. فثمة مخاطرة أيضاً بأن مثل هذه المشروعات واسعة النطاق قد تتعرض للتوقف بسبب تغير في السياسة أو تدهور في الأوضاع الأمنية". وشددت على أن "العوائد الاقتصادية من المفترض أن تفوق النفقات المالية أو على أقل تقدير تتعادل مع الإيرادات الناتجة عن حقوق الاستخراج".