يفتح تمرد قائد مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية يفغيني بريغوجين على الجيش الروسي الباب واسعاً للنقاش حول مستقبل صراع الدول الغربية وروسيا في أفريقيا، التي يجرى عبر زرع المليشيات والمرتزقة وجيوش الجنود المأجورين وتغذية النزاعات الإثنية والقبلية تمهيداً لنهب مواردها وإفقار الشعوب، وفق مراقبين.
وركزت وسائل الاعلام الغربية حتى الآن على تداعيات تمرد مجموعة فاغنر على إضعاف الجيش الروسي واحتمال هزيمة موسكو في الحرب الأوكرانية، وتجاهلت إلى حد ما تداعيات تمرد فاغنر على التنافس القائم بين روسيا والغرب في دول أفريقيا، وحتى في بعض الدول في أميركا اللاتينية، وتحديداً التنافس بين روسيا التي ترغب في استعادة نفوذها في القارة السمراء، وبين فرنسا التي ضعف نفوذها فيها بسبب تمدد فاغنر.
في هذا الصدد، لاحظت دراسات غربية أن روسيا وبعض الدول المتنافسة على الموارد الطبيعية في أفريقيا عمدت إلى إنشاء المليشيات العسكرية لخدمة مصالحها في أفريقيا، وجرى ذلك عبر دعم هذه المليشيات الانقلابات العسكرية والحكومات الديكتاتورية الهشة، التي هي بحاجة للحماية من الجماهير الغاضبة من حكامها الطغاة.
وعادة ما تمنح الحكومات الغربية هذه المليشيات والمرتزقة عقودًا لحيازة التنقيب عن المعادن الاستراتيجية شبه مجانية، ولا تراعي مصالح شعوبها، في مقابل الحصول على صفقات السلاح وعقود الحماية الأمنية.
وعلى سبيل المثال، فإن تمرد مليشيا فاغنر وانشغالها بالحرب الروسية في أوكرانيا أضعف نفوذها في أفريقيا، حيث تمكن الجيش السوداني من ضرب قوات الدعم السريع "مليشيا حميدتي"، الذراع الأفريقية القوية للمجموعة الروسية في أفريقيا، وبالتالي خسرت روسيا تدريجياً مناجم للذهب في أفريقيا الوسطى لصالح الشركات الفرنسية.
ويبدو أن موسكو في طريقها لخسارة منجم جبل عامر للذهب في السودان، وربما في المستقبل خسارة حقول النفط في شرق ليبيا، التي تسيطر عليها قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، التي تعتمد على دعم مجموعة فاغنر ودولة إقليمية أخرى.
وحسب معهد بروكغنز للدراسات الاستراتيجية في واشنطن، فإن الأهداف الاستراتيجية لمجموعة فاغنر في أفريقيا هي احتواء النفوذ الأميركي والغربي في القارة، وتحويل الحكومات التي تعمل فيها إلى "محميات روسية" تابعة لنفوذ موسكو، وبالتالي استغلال ثرواتها عبر عقود طويلة الأجل، وكذلك أن تصبح سوقاً حصرية لمبيعات السلاح الروسي.
ويبدو أن الشركات الفرنسية التي تعمل في مناجم الذهب واليورانيوم ستكون من كبار المستفيدين من تمرد فاغنر.
وتعتمد فرنسا على اليورانيوم الذي تستخرجه شركاتها من الدول الأفريقية في توليد الطاقة النووية.
وتنشط مجموعة فاغنر في الدول الأفريقية ذات التركيبة السكانية الهشة، التي فيها موارد معدنية استراتيجية مثل الذهب واليورانيوم والنفط والألماس والماغنسيوم والليثيوم والمعادن النفيسة.
وهذه المعادن الاستراتيجية تدعم النفوذ الروسي في الصراع العالمي مع الدول الغربية. كما أن الهيمنة على هذه المعادن تدعم استراتيجية موسكو في النفوذ العالمي.
وحسب معهد "بروكغنز"، فإنه غالباً ما تقدم مجموعة فاغنر خدمات أمنية ومساعدة شبه عسكرية وحملات تضليل إعلامية ودعما دبلوماسيا في المنظمات الدولية، مثل استخدام موسكو حق "الفيتو"، لمنع معاقبة هذه الدول من قبل الأمم المتحدة على خرق حقوق الإنسان والعنف المفرط ضد مواطنيها ومخالفة القوانين الدولية.
ويشير تقرير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، الذي نُشر حديثاً في باريس، إلى أن وجود روسيا في قطاع التعدين الأفريقي لا يعتمد فقط على الشركات التي يقودها منطق الربحية الاقتصادية، ولكن أيضًا على الشركات المرتبطة بمجموعة فاغنر التي تعمل على تعزيز النفوذ الجيوسياسي لموسكو، ما يسمح لموسكو بالالتفاف على العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية.
ويهدف منطق موسكو إلى توظيف فاغنر الأمني والعسكري في أفريقيا لخدمة مشاريع مناجم المعادن التي توجد فيها مجموعات التعدين الروسية، مثل المناجم التي تملكها شركة الألماس Alrosa في كل من أنغولا وزيمبابوي وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وشركة روسال في غينيا والذهب في غانا والسودان وأفريقيا الوسطى، وشركات أخرى تعمل في مناجم الألماس والبوكسايت والمعادن الأخرى.
وعلى سبيل المثال، في عام 2017، وبحسب مصادر غربية، فقد نشرت مجموعة فاغنر حوالي 500 رجل في السودان، مقابل ذلك، تلقى قائد المليشيا، بريغوجين، حقوقًا حصرية لتعدين الذهب في السودان، عبر شركة M-Invest الخاصة به. كما عرض عمر البشير على موسكو تأسيس قاعدة بحرية على البحر الأحمر.
ووفق بعض الأنباء غير المؤكدة، تساهم المليشيا الروسية حالياً في دعم مليشيا حميدتي، التي نفذت العام الجاري انقلاباً فاشلاً ضد الجيش السوداني.
وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، دعمت مجموعة فاغنر الحكومة الضعيفة للرئيس فوستين-أرشانج تواديرا، التي تمتد سلطتها قليلاً إلى ما وراء العاصمة.
ويواجه النظام الحاكم في أفريقيا مجموعات متمردة مختلفة منذ العام 2018. وفي مقابل حماية النظام الديكتاتوري الضعيف، حصلت مجموعة فاغنر على تراخيص تعدين الألماس والذهب في شمال البلاد.
كما نشرت مجموعة فاغنر وحدات في ليبيا في العام 2019، لدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر خلال هجومه على العاصمة طرابلس. وقدمت المجموعة الروسية المشورة والمساعدة وتدريب المرتزقة الأجانب والمليشيات الأخرى النشطة في شرق البلاد، وتأمل بذلك السيطرة على بعض حقول النفط الليبية.
وفي مقابل التمدد الروسي في القارة الأفريقية عبر مجموعة فاغنر، تتراجع مصالح فرنسا في أفريقيا.
وتتخوف فرنسا من خسارة مثلث اليورانيوم الذي يمتد بين إقليم دارفور، غربي السودان، وتشاد والحدود الجنوبية في ليبيا، لأنه مثلث استراتيجي لتوليد الطاقة النظيفة في المستقبل.
وهنالك أكثر من 40 ألف شركة فرنسية تنشط في أفريقيا، منها العشرات من الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة مثل TotalEnergies أو Areva أو Vinci.
ولا يستبعد محللون أن يساهم تمرد فاغنر في إضعاف النفوذ الروسي في أفريقيا، وبالتالي خدمة مصالح فرنسا.
وتوجد في أفريقيا حالياً نحو 35 مليشيا عسكرية تحت مسميات مختلفة.
أكبر هذه المليشيات مجموعة فاغنر الروسية التي يمتد نفوذها في 10 دول، منها السودان وأفريقيا الوسطى وغانا وزيمبابوي وموزامبيق وليبيا وسورية وفنزويلا.