هل تواجه أسواق المال الناشئة أزمة نقص سيولة دولارية مرة أخرى مثلما حدث في الربع الثاني من العام الماضي 2020؟
سؤال بدأ يتردد في ردهات المصارف والصناديق الاستثمارية العالمية، خاصة وأن معظم الاستثمارات في الأسواق الناشئة هي تدفقات دولارية. التساؤل تم طرحه على خلفية نتيجة تقرير حديث نشره معهد التمويل الدولي قبل أيام أشار فيه إلى أن التدفقات المالية، وعلى رأسها التدفقات الدولارية، بدأت تتراجع في أسواق المال الناشئة، بل تحولت إلى السالب خلال الأسبوع الأخير من شهر فبراير/ شباط الماضي، أي أن حجم التمويلات التي تخرج من الأسواق الناشئة بات أكبر من تلك التي تدخلها.
وهذا التحول لا يحدث فقط في سوق الأسهم بالأسواق الناشئة، بل كذلك في سوق الدين، أي سندات الدين التي تصدرها الشركات والدول الناشئة، وهو ما يعني أن هنالك موجة هروب من تلك الأسواق إلى البلدان المتقدمة، خاصة السوق الأميركي الذي ارتفع فيه العائد على سندات الخزانة الأميركية إلى مستويات قياسية خلال الأسبوع الماضي، إذ ارتفع العائد على تلك السندات بقوة يوم الخميس الماضي وبنسبة 6% ليبلغ نسبة 1.48% على سندات الخزانة أجل 10 سنوات، بينما واصل الدولار رحلة الارتفاع طوال الأسبوع الماضي.
موجة هروب للأموال من الأسواق الناشئة إلى البلدان المتقدمة، خاصة السوق الأميركي الذي ارتفع فيه العائد على سندات الخزانة إلى مستويات قياسية
ووفق توقعات محللين، فإن هناك احتمالا بتواصل هروب التمويلات من الأسواق الناشئة خلال الشهور المقبلة.
ويرجع هؤلاء حدوث النقص في الدولارات المتوقع في الاقتصادات الصاعدة إلى ثلاثة عوامل رئيسية، وهي احتمال نمو الاقتصاد الأميركي بمعدلات أكبر قد تفوق كثيراً توقعات المحللين وخبراء المال، واحتمال ارتفاع الفائدة على الدولار في وقت أقرب من توقعات أسواق المال، وبالتالي إجبار مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) على رفع سعر الفائدة على الدولار.
والعامل الثالث هو الدور المهيمن الذي يلعبه الدولار في التسويات التجارية، وتمويل الصفقات في حال السيطرة على جائحة كورونا وعودة النمو الاقتصادي العالمي إلى طبيعته خلال العام المقبل.
في هذا الشأن، لاحظ تقرير معهد التمويل الدولي أن التدفقات المالية الأجنبية في أصول أسواق المال الناشئة تحولت إلى السالب لأول مرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول في العام الماضي 2020.
ويرى المعهد أن التحول حدث بسبب ارتفاع كلفة الدين في الولايات المتحدة، أي أن الفائدة على الأصول الدولارية أصبحت مرتفعة. ويعتمد معهد التمويل الدولي في بياناته على تتبع 30 سوقاً من الأسواق الناشئة الرئيسية.
مدير شؤون الاستثمار بصندوق "بلاك روك"، يتوقع أن تقود أموال التحفيز المالي والنقدي الضخمة التي ضخها الاحتياطي إلى انتعاش الاقتصاد الأميركي
وأظهرت بيانات المعهد، ومقره واشنطن، أن حجم التدفقات الاستثمارية الأجنبية التي خرجت من الأسواق الناشئة في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/ شباط الماضي يفوق تلك التي دخلت إليها بنحو 290 مليون دولار يومياً، مقارنة مع تدفقات إيجابية كانت تقدر يومياً بنحو 395 مليون دولار في الأسابيع الثلاثة الأولى من الشهر الماضي.
في ذات الصدد، توقع المدير التنفيذي لشؤون الاستثمار بصندوق "بلاك روك"، ريك رايدر، أن تقود أموال التحفيز المالي والنقدي الضخمة التي ضخها مصرف الاحتياط الفيدرالي، إلى انتعاش الاقتصاد الأميركي. وضخ الفيدرالي الأميركي والحكومة نحو 4 تريليونات دولار في الاقتصاد خلال العام الماضي، إضافة إلى نحو 1.9 تريليون دولار خلال العام الجاري.
ويتوقع رايدر أن تقود هذه التدفقات، التي تساوي نسبة 20% من إجمالي الكتلة النقدية الدولارية المتداولة في السوق، إلى إيقاظ غول التضخم الذي كان نائماً طوال السنوات الماضية.
وتشير البيانات الرسمية الأميركية إلى ارتفاع مؤشر مبيعات التجزئة وكلفة الإنتاج في أميركا. وهذه المؤشرات مهمة وتمنح دلالة أولية على أن التضخم الأميركي يتجه نحو الارتفاع.
يذكر أن الولايات المتحدة نجحت حتى الآن جزئياً في محاصرة جائحة كورونا، إذ تشير البيانات الرسمية إلى تراجع عدد الإصابات والوفيات في الولايات، في أعقاب عمليات التطعيم المكثف الجارية منذ تولي إدارة الرئيس جوزيف بايدن للحكم في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي.
وتوقع رايدر أيضاً أن يشهد العالم في أعقاب نهاية جائحة كورونا أو حتى محاصرتها في الاقتصادات الكبرى أزمة نقص في الدولارات، بسبب هيمنة الورقة الخضراء على التسويات المالية العالمية وتمويل الصفقات التجارية.
ولا يزال الدولار يهيمن على نسبة 50% من التسويات التجارية في العالم، كما يهيمن على نسبة 80% من تمويلات الصفقات التجارية في العالم، حسب بيانات "بلاك روك"، وبالتالي فمن المتوقع أن تقود عودة الدورة الاقتصادية العالمية إلى مستوياتها الطبيعية إلى زيادة كبيرة في الطلب العالمي على العملة الأميركية، ربما يفوق كثيراً ما اكتنزته المصارف التجارية الأميركية والغربية من دولارات خلال العام الماضي.
وفي حال حدوث ذلك فإن الأسواق الناشئة ستكون أول من يدفع ثمن النقص في الدولارات. وعادة ما تمنح الأسواق الناشئة عوائد مرتفعة على الاستثمار الأجنبي مقارنة بالأسواق المتقدمة، إذ تلجأ لرفع جاذبية الاستثمار فيها وكذلك تعويض المستثمرين الأجانب عن المخاطر المحتملة فيها.
توقعات بزيادة سعر الفائدة على الدولار وسندات الخزانة ومعدل التضخم بالولايات المتحدة
وربما تقود عملية هروب الاستثمارات الأجنبية، وعلى رأسها الاستثمارات الدولارية من الأسواق الناشئة، إلى دورة ارتفاع جديدة في سعر الفائدة المصرفية بالأسواق الناشئة.
وفي الغالب تفضل الصناديق والمصارف التجارية الغربية الاستثمار في أسواقها حينما يكون العائد مرتفعاً في الولايات المتحدة وأوروبا.
ويشير مصرف "غولدمان ساكس" الاستثماري في توقعاته للسوق الأميركي التي نشرها يوم الخميس الماضي، إلى ارتفاع العائد على سندات الخزانة الأميركية أجل 10 سنوات إلى أكثر من مستواها الحالي، وأن يصل العائد إلى نسبة 1.9% بنهاية العام الجاري.
ويلفت تحليل شركة "بلاك روك" إلى أن معدل التضخم الأميركي ربما سيرتفع بمعدل يفوق المعدل المستهدف من قبل البنك المركزي والبالغ 2% ويصل إلى 2.5% خلال العام الجاري.
وحدوث مثل هذا السيناريو، سيدفع الصناديق والمصارف الاستثمارية إلى العودة بقوة لشراء الأصول الأميركية الرخيصة حالياً، على أمل تحقيق أرباح ضخمة منها خلال السنوات المقبلة، حينما يتواصل الانتعاش القوي في الاقتصاد الأميركي، ويرتفع التضخم ويرتفع سعر صرف الدولار.
وعادة ما يجبر ارتفاع التضخم فوق 2% البنك المركزي على رفع الفائدة على الدولار. وتثير مثل هذه التوقعات هروب الدولارات من الأسواق الناشئة إلى أدوات المال الأميركية ذات العائد المرتفع والمضمون وغير المكلف من ناحية التأمين على الاستثمارات، مقارنة بكلف التأمين على الاستثمارات الخطرة في الأسواق الناشئة.
يضاف إلى هذا العامل أن الفوائض المالية المتوفرة لدى الشركات الأجنبية ستتجه للاستثمار في السوق الأميركي، لحاجتها للدولارات لتسديد التزاماتها المالية الدولارية التي اقترضتها في السنوات الماضية قبل جائحة كورونا.
يذكر أن السنوات الماضية شهدت موجة استدانة دولارية كثيفة، خاصة في دول النمور الآسيوية والصين التي مولت دورة الانتعاش الاقتصادي عبر الاستدانة من المصارف الأميركية.
وتشير بيانات لنشرة "نيكاي آشيان ريفيو" اليابانية، إلى أن حجم الديون الدولارية في الأسواق الناشئة التي يحين أجل سدادها خلال العام الجاري يقدر بنحو 200 مليار دولار. وكانت هذه الدول قد سددت ديوناً بلغت 115 مليار دولار في العام الماضي 2020.
وتتضاعف أزمات الدول وشركات الاقتصاديات الناشئة كلما ارتفع سعر صرف الدولار، أو عادت دورة الانتعاش القوي للاقتصاد الأميركي الغني، من حيث حجم سندات الدين المقدرة بنحو 40 تريليون دولار، ومن حيث حجم القوة الشرائية المقدرة بنحو 14 تريليون دولار.
أمام هذه المغريات تفضل البنوك التجارية الأميركية والغربية عموماً الاستثمار في الأصول الأميركية على المخاطرة في الأسواق الناشئة.
وتتدافع البنوك الغربية على زيادة أرصدتها الدولارية في الوقت الراهن، خوفاً من تزايد الطلب عليه في سوق الصرف العالمي المقدرة تداولاته يومياً بنحو 6.6 تريليونات دولار.