"في يناير/ كانون الثاني من مطلع العام الجديد 2017، أطل علينا رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، بتصريحات غريبة ومثيرة للدهشة، قال فيها (أيوه إحنا بلد فقير... وفقير قوي كمان).
وبقدر ما صدمت هذه الكلمات القصيرة والحادة، الرأي العام في مصر، بقدر ما كشفت أننا إزاء رئيس لا يمتلك أفقاً ولا رؤية لإخراج البلد من مأزقها الاقتصادي والسياسي، الذي تسبب به أسلافه من جنرالات الجيش والمؤسسة العسكرية الذين حكموا مصر منذ عام 1952 حتى يومنا"...
هكذا يبدأ الكاتب والخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق مقدمة كتابه "هل مصر بلد فقير حقاً؟ رداً على الجنرال عبد الفتاح السيسي"، الذي صودرت مسودته ومنع من النشر في مصر، قبل أن يقود كاتبه إلى الاعتقال من قبل النظام الأمني المصري، أمس الأحد، بتهمة نشر أخبار كاذبة.
إلا أن الكتاب الجريء انتشر إلكترونياً، ليضع القارئ أمام أرقام تكذب بالتفصيل ادعاء السيسي أن مصر بلد فقير، لا بل يقترح خطة قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد تتضمن إصلاحات تضع الاقتصاد المصري على سكة النهوض بدلاً من الاستدانة...
وألقت قوات الأمن المصري، أمس الأحد، القبض على أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة، مؤلف كتاب "هل مصر فقيرة حقاً"، عبد الخالق فاروق والذي اقتيد إلى قسم شرطة مدينة الشروق، شرقي العاصمة القاهرة، وفقاً لتدوينة كتبتها زوجته نجلاء سلامة، على حسابه الشخصي عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
وسبق أن أخفت أجهزة الأمن صاحب مطبعة دار السلام، إبراهيم الخطيب، الذي تولى طباعة كتاب الخبير الاقتصادي البارز، وذلك من مقر عمله بواسطة رجال أمن بزي مدني، بمؤازرة ضباط من جهاز الأمن الوطني، من دون سند قانوني أو إذن من النيابة العامة، ومن غير المعلوم مكان احتجازه حتى الآن، علماً بأن النيابة أصدرت قراراً بإخلاء سبيله.
وأعلن فاروق قبل أسبوع واحد مصادرة جهاز الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية كتابه الصادر حديثاً، فضلاً عن إلقاء القبض على صاحب المطبعة، على الرغم من حصوله على تصريح رسمي بالنشر من الجهات المختصة، الأمر الذي دفعه لاحقاً لنشر نسخة إلكترونية من الكتاب على مواقع التواصل الاجتماعي.
جهل بقدرات الاقتصاد
يقول فاروق المعتقل في كتابه: "صحيح أن الشعب المصري قد اعتاد منذ أن تولى الجنرال السيسي منصبه كرئيس للجمهورية على تلك التصريحات الغريبة والمثيرة للاستهجان، من قبيل (وأنا كمان غلبان... حاجيبلكم منين)، بيد أن هذا التصريح الأخير الخاص بأن (مصر بلد فقير... وفقير قوي)، لم يكن ليمر دون رد، ودون شرح، لأنه كان كاشفا عن جهل فاضح بالقدرات الكامنة والحقيقية في الاقتصاد والمجتمع المصري، وغياب رؤية قادرة على الاستفادة من تلك القدرات والإمكانيات".
ويضيف: "ثم فإنها (التصريحات) مؤشر لا تخطئه عين الخبير على غياب أي أفق تحت قيادة هذا الرجل للخروج من الكارثة الاقتصادية التي استمرت خلال السنوات الأربع من حكمه (يوليو (تموز) 2014 – يوليو 2018،) وذهبت بنا إلى ما هو أبعد وأخطر".
ويلفت فاروق إلى أن كتابه "فرصة للتصدي لتلك المقولة الخطيرة التي أطلقها رئيس الجمهورية، وأشرح بكل ما أوتيت من معرفة كذب هذه المقولة وخطورتها على الرأي العام المصري. هذا الكتاب كلمة للتاريخ والناس، تتداوله الأيدي والعقول عبر الزمن، فيرد للشعب كرامته ويحفظ للحقيقة مكانها".
ويشرح: "الحقيقة أن نمط اقتصاد السوق الفوضوي الذي ساد في مصر طوال الخمسين سنة الأخيرة، وخصوصا منذ عام 1974، كان يتفق تماما مع صعود قوى اجتماعية جديدة وتحالف اجتماعي بدأ يتشكل منذ هذا التاريخ، مكون من أربعة روافد، هي رجال المال والأعمال الجدد وكبار جنرالات المؤسسة الأمنية والعسكرية، وبعض الطامحين والطامعين من المؤسسة الجامعية (أساتذة الجامعات)، وأخيرا بعض أعضاء المؤسسة القضائية".
معادة التخطيط
ويقول عبد الخالق فاروق: "من هؤلاء تحددت السياسات، وأشكال توزيع الفائض والأرباح. وأصبحت معاداة هؤلاء لفكرة التخطيط والتحيز للفقراء والطبقة الوسطى، بمثابة عمل يومي وغذاء روحي، ومن هنا لم يعد للأفكار التي تنتصر لمفهوم التخطيط أي مكان لدى صانع القرار في بلادنا. وإذا كانت هذه هي سياسة الحكومة المتحالفة مع رجال المال والأعمال، فهل هناك بدائل إنقاذ الوضع الاقتصادي عموما والجنيه المصري خصوصا من حد الكارثة والانهيار، وتجنب تجارب الانهيار التي واجهتها دول مثل روسيا عام 1999، والأرجنتين عام 2001، والبرازيل والمكسيك وأدت إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية عاصفة؟ والإجابة بالقطع نعم. والأهم: هل نحن بلد فقير حقا؟ والإجابة هنا بالقطع لا".
ويضيف فاروق في كتابه: "لعل أخطر ما تردد في السنوات والشهور الأخيرة، هو ما قاله أحد المسؤولين الكبار في يناير (كانون الثاني) 2017 بأننا بلد فقير. ثم عاد وكرر العبارة بانفعال شديد قائلا: (أيوه إحنا بلد فقير قوي). وبقدر ما أن هذا الكلام غير صحيح جملة وتفصيلا، بقدر ما يعكس إما عدم إدراك للقدرات والإمكانيات المتاحة في مصر، أو عدم رغبة حقيقية في إعادة بناء اقتصاد البلاد ونظامها الضريبي بما يلبي المطالب العادلة للمواطنين، وبما يأخذ من الأغنياء ورجال المال والأعمال حق الدولة والمجتمع".
ويتابع: "كما يؤكد هذا الكلام في الوقت نفسه عدم رغبة في وقف الإهدار والإسراف الذي يميز الإدارة الحالية ووزرائها، ومجلس نوابها... راجعوا موضوع الإنفاق الحكومي ستجدون فضائح بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
ويشير فاروق إلى أن "مبيعات السيارات في مصر عام 2016 بلغت 198271 سيارة، بعد أن كانت في العام الماضي 2015 حوالي 278406 سيارات، وإذا حسبنا أن متوسط سعر السيارة الواحدة 150 ألف جنيه فقط، فإن مشتريات المصريين من السيارات بلغت عام 2016 حوالي 0.3 مليارات جنيه، وإذا كان متوسط سعر السيارة 200 ألف جنيه فنحن نتحدث عن 0.4 مليار جنيه، هذا بخلاف السيارات المستوردة من الخارج. هل هذا تعبير عن بلد فقير.. وفقير قوي كما يردد هذا المسؤول الكبير؟".
العقارات الفارهة
ويقدم الخبير الاقتصادي المعتقل رؤية للانفاق الاستهلاكي داخل المجتمع، حيث يقول في كتابه: "نضيف إلى ذلك ما كشفته دراسات حديثة بشأن حجم مشتريات المصريين من فيلات وقصور وشاليهات سياحية فاخرة، منذ عام 1980 حتى عام 2011، قد بلغ 415 مليار جنيه على الأقل، بما يعادل 180 مليار دولار بأسعار الصرف السائدة في تلك الفترة الزمنية، فهل هذا تعبير عن بلد فقير حقا".
"وعلاوة على ذلك، فإن النتائج التي تسربت من أبحاث الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، عام 2001 حول حجم ودائع المصريين في البنوك الخارجية – أي خارج مصر - قد تجاوزت 160 مليار دولار، وهو ما يصل حاليا إلى 250 مليار دولار وفقا لمعدلات النمو الطبيعية في هذه الودائع والثروات. وإذا أضفنا إليها ما جرى تهريبه من أموال بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، فنحن نتحدث عن قدرات مالية هائلة. فهل نحن بلد فقير حقا؟".
ويتابع فاروق: "تكشف الأموال التي جمعت من المصريين، أفرادا كانوا أو مؤسسات مالية، في أقل من أسبوعين من أجل حفر التفريعة الجديدة لقناة السويس عام 2014، والتي تجاوزت 64 مليار جنيه عن مقدار الفائض والمدخرات المتاحة لدى المصريين، وقدرتهم على تعبئة هذا الفائض، إذا ما توافرت الثقة في القيادة السياسية للبلاد، وطرحت أمامهم آفاق للمستقبل، والخطورة هنا إذا ما اصطدمت هذه الثقة مرة بعد أخرى بخيبة أمل، وضياع للبوصلة، مما يؤدي إلى تبديد هذه الثقة، خصوصا لدى الفئات الوسطى والفقراء في المجتمع".
مصر غنية
ويخلص الخبير الاقتصادي المصري المعتقل إلى "أننا مجتمع لديه فوائض مالية كبيرة لدى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، ومن طبقة رجال المال والأعمال، تذهب في أنواع عديدة من الاستهلاك، بسبب غياب سياسات للتنمية، وانسحاب الدولة من تعبئة الموارد والتخطيط الترفي، بما يعيد صياغة الموارد والإمكانيات بصورة تنموية، والتفرغ فقط إلى أعمال المقاولات والطرق والعاصمة الإدارية.
أي أننا بصدد عقل مقاولي إنشاءات، وليس رجال تخطيط وتنمية وعدالة اجتماعية، ورؤية بعيدة المدى لتصحيح الاختلالات العميقة في نمط توزيع الثروات والدخول".
ويضيف الكتاب: "أشارت تقارير منظمة النزاهة المالية الدولية إلى أن حجم التدفقات غير المشروعة من مصر إلى الخارج نتيجة للفساد الحكومي يقدر بحوالي 57 مليار دولار خلال السنوات الممتدة من عام 2000 حتى عام 2008. فهل نحن بلد فقير حقا؟ ".
ويكمل "من هنا تأتي محاولتنا لحصر الأصول والممتلكات الحكومية، التي أنفق عليها المجتمع والدولة المصرية مئات المليارات من الجنيهات طوال أكثر من سبعة عقود سابقة، والتعرف على طرق ووسائل استخدامها، خاصة أن الكثير منها لم يحل دون الفشخرة الاستثمارية، وبناء وإقامة المزيد منها، مثل المباني الإدارية للوزارات والمصالح الحكومية المختلفة".
وبعد كشف الكتاب لمكامن الخلل في الاقتصاد المصري، وزيف ادعاءات فقر مصر، يستعرض "روشتة بديلة لإنقاذ الاقتصاد المصري".
وتقوم لائحة الإصلاحات التي يقترحها فاروق في كتابه على خطة متكاملة، قصيرة (حتى 3 سنوات)، متوسطة (من 3 إلى 7 سنوات)، وطويلة الأمد (من 7 إلى 15 سنة). وتشمل الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والبيئة والتشغيل والتوظيف، وإعادة بناء قطاع الأمن والعدالة، وبناء نظام الأجور والمرتبات، وتوجيه النظام المصرفي لخدمة احتياجات وأولويات التنمية، وفقا للخطط الموضوعة...