بسبب وحشية الشرطة، سال الدم، فاندلعت انتفاضة عنيفة، تُحطّم وتحتلّ وتكسّر الممتلكات العامة. نار نار نار، في "أتينا" (2022، "نتفليكس") لرومان غافراس. تتحرّك الكاميرا لتُظهر وحدة المكان. البطل الحقيقي كاميرا محمولة تُطارد ما يجري. هناك لعب بالوسيط السينمائي، مُعادل الراوي الذي يصير موضوعاً لسرده. تتبع الكاميرا شخصية طاووسية عنيدة، من دون مؤهلّات، تحاول تزعّم انتفاضة، لكنّ الأحداث تتجاوزها.
قطرة الدم المسفوك شرارة مُثيرة. المُسبّبات عميقة. يوحي المكان بضواحي المهاجرين، حيث الأحياء البائسة في مدن فرنسا. عماراتٌ أقفاصٌ تمتدّ إلى ما لا نهاية. فيها شقق صغيرة مُكتظّة، بعيداً عن البنى التحتية الأساسية. يُعزّز الديكور مصداقية الأحداث.
تمّت السيطرة على حيّ أتينا من حثالة هائجة، تريد تنظيم ثورة بخطوات كارثية. تريد التفاوض، وتحمل كوكتيل مولوتوف مشتعل. تمّ الاستنجاد بشخص معتوه لتقوية الاعتصام وكسب الوقت. لهذا الشخص حسابات خاصة، بعثرت الخطة.
يعرض الجينريك أسماء مغاربية، في ضاحية فرنسية، من المناسب تحليلها بسوسيولوجيا الأقفاص: عمارات عمودية مُكتظّة وعالية جداً. لا مؤسّسات أفقية في المحيط. من تبعات ذلك الاكتظاظ، سخطٌ على الذات والمكان. يجد الشاب أمامه حاويات نفايات، فيُشعل فيها ناراً. يتأكّد هنا قول تشي غيفارا: "تتكشّف نقمة الفقراء على مستقبلهم من خلال ردود فعلهم الحادة".
هذا عنفٌ يُمارسه شبّان يعانون غياب العدالة، ويشعرون بالظلم. يبحثون عن التغيير، ويرفضون أنْ "لا جديد تحت الشمس". ليس لديهم ما يخسرونه. هذا عنف سياسي، لا عنفاً مجانياً، كما في أفلام الكاراتيه.
لتشخيص الأزمة، صمّم السيناريست (غافراس متعاوناً مع لادج لي وإلياس بلقادر) حبكة صعبة: شابٌ من أبناء المهاجرين، الغاضبين من الدولة الفرنسية، صار يخدم في الجيش الفرنسي. فجأة، قُتل قريب له. لمن سيكون ولاؤه: للدولة، أو للقرابة الدموية؟ هذه حرب وسط الدولة، تجد امتدادها وسط أسرة.
يؤرّخ "أتينا" حدثاً وقع وسيقع: صدام الشرطة مع شباب الأحياء الشعبية. يطرح موضوعاً يحتلّ الصفحات الأولى للصحف. هناك تجمهر مُسلّح، للمطالبة بحقّ كشف الحقيقة، وتحديد الشرطي المجرم. تجمهرٌ ترتّب عليه عنفٌ منفلت. شباب غاضبون، يُفرغون بؤسهم بتحطيم الممتلكات العامة. تتبعهم كاميرا محمولة، في انتفاضةٍ على طريقة شغب الملاعب. هذه "كومونة باريس الفوضوية". تلهث الكاميرا (ماتياس بوكار) خلف الأحداث، ما جعل اللقطات تتشابه على صعيد المحتوى والأسلوب. هذا التشابه يفتقد العمق، ويسبّب الملل.
الدم المسفوك مناسبة للانتفاضة، كما حصل بعد مقتل محمد بوعزيزي (4 يناير/ كانون الثاني 2011) في تونس، ويحصل الآن بعد مقتل مهسا أميني (16 سبتمبر/ أيلول 2022) في إيران. انتفاضاتٌ تتغذّى من الغضب المتراكم. غضبٌ تطارده كاميرا سياسية. من فرط تأثير الفيلم، خرج رئيس المنطقة التي صُوّر فيها إلى الصحافة، لينفي أنْ يكون حيّه موقع أحداث القصة. (النص الكامل على الموقع الإلكتروني) يُصوّر "أتينا" شباناً يتنازعون مع الدولة في احتكار العنف. لذا، هيبة الدولة في الاختبار. لا تسمح الدولة القومية لغيرها باحتلال الفضاء العمومي. لا تتفاوض، مهما كان الثمن. لذا، يسيل مزيدٌ من الدم. لن يسمح جهاز بوليس دول كثيرة بتصوير مشاهد مشابهة.
بالنسبة إلى البوليس، يوجد مكان خاص بالتفاوض بين المنتخبين. يتحدّث منتخبو الجمهورية، على شاشات التلفزة، عن أحياء لا تطبّق قوانين الجمهورية الفرنسية المجيدة. أحياء يحكمها ملتحون وتجّار مخدرات. يتمّ تأليب الجمهور على المُنتفضين الغرباء: "نحن على صواب. هم على خطأ".
هكذا توفّرت تغطية سياسية لعمل الشرطة ضد من يختلق ثورة، قصيرة الأمد، في حيّ أتينا.
لتصوير هذا المخاض، لا تهدأ الكاميرا، ولا تبحث عن إضاءة مثالية. إنّها كاميرا سياسية، تُطارد ما يجري عبر مسارات ملتوية ومُعتمة. تجري الأحداث في وقتٍ قصير. تتحرّك الكاميرا لتلتقط العنف المنفلت، وتُطارده. شقيقان نزيهان يبحثان عن العدالة بطريقتين مختلفتين. في قلب هذه الفوضى، يوجد انتهازيّ يُحرّكه هاجس الربح، بغضّ النظر عمن مات، وعمن يناضل.
تجري الأحداث في مكان مغلق، بين أبناء الحي. شبان ينتمون إلى وسط سوسيوثقافي بائس، ما يحكم على مستقبلهم بالإعدام. هنا، يلعب الدين والأصل المناطقي والعرق واللهجة أدواراً في تشكيل الهويات والعلاقات. يصفّي أبناء الحي حساباتهم في ما بينهم، ثم يتجهّزون لمواجهة الدولة العدو. بدأ الفرز. هذا واحد منّا، وذاك واحد منكم. يجري فرز حاد في قلب الحي الشعبي: هل أنت معنا، أم ضدنا؟ في مشهد لاحق يرتدي عبدول جلباباً أبيض فوق البذلة العسكرية. تداخلت الهويات والتَبَسَت.
هذا مأزق ولاء الجيل الثالث من أبناء المهاجرين، المولودين في فرنسا، والذين لا صلة لهم بها فعلياً. يتحرّك عبدول في موقع ملتبس بين "نحن" و"هُم". بالدم، يرتبطُ بالضحايا؛ وبالولاء يرتبط بالدولة.
في لحظة الأزمة، على بطل الفيلم أنْ يختار.