استولى مفهوم "الخوف السائل" الذي نحَته الفيلسوف زيغمونت باومان على المعرض الأخير للفنان التشكيلي القطري فرج دهام، المقام في غاليري المرخية بمقر الفنانين (مطافئ) حتى 25 من مارس/ آذار المقبل.
إنه نسخة بصرية من حالة "الخوف من الخوف" اختار لها الفنان لوناً طاغياً، هو لون الصدأ، في معرضه الذي سمّاه "احتراز".
وكعادته في مساره الفني، ظلَّ فرج دهام (1956) مهجوساً بالأفكار وألوانها. فكل مشروع يخوضه يكون ذا بعد مفاهيمي، أو للدقة، مأزقاً مفاهيمياً يجرّ المشاهد إليه، وإلى اقتراحاته اللونية.
يكون للاحتراز لونُ الصدأ. في معناه المباشر بحسب التعريف المعجمي هو "الدنَس يركَبُ الحديد"، غير أنه هنا اختار هذا اللون، ليكون المعادل الوحيد للخوف في زمن الوباء، مع أن دهام معروف بغرامه في الألوان، حتى أنه يوصف بأحد أفضل الملوِّنين بين الفنانين القطريين.
وحين يخوض تجربة جديدة مع خامة الحديد، يتوقع المشاهد أعمالاً فنية تقوم على تشكيل هذا المعدن. غير أنه في معرضه "احتراز" لم يقدم سوى ثلاثة أعمال حديدية، يمكن أن تعايَن فيها مجسّمات هذه الخامة.
أما الذي سيطر على المعرض، فكان فكرة الصدأ، لون الحديد حين يتعرض لعاملي الزمن والطبيعة. يأخذ اللون ويجعله سيد اللوحات، وأغلبها طولية بلا إطار، تشبه المعلّقات الجلدية القديمة.
فور أن تلمح هذه المعلقات، وبعضها يهبط من جدار الطابق الثاني للغاليري إلى أسفل، تدفعك التجربة إلى زمن آخر بعيد، ومكان أبعد لن يكون إلا داخلك الغامض على بعد لمسة يد.
ومثلما هو الخوف سائل، يتحول اللون بطواعية للتعبير عن سيولة صدئية، يستحضر فيها أشكال الاحتراز، من قلادات وخرز، وحجابات جلدية، ولفافات ورقية تحتوي على طلاسم، حتى الوردة تذعن للاحتراز الذي فرض عليها لون الصدأ.
ولو كان زيغمونت باومان حياً (توفي 2017)، وعاصر وباء كورونا، لباتَ أكثر وثوقاً بأنه "في الحياة الحديثة السائلة اتضح أن الصراع ضد المخاوف هو مهمة مدى الحياة"، ولربما انشغل أكثر بوصف الفضيحة التي فقط كانت أكبر، وأكثر عمومية مما عرفناه سابقاً من وعود عصر التنوير بأن الخوف سينتهي إلى الأبد.
يطرح فرج دهام مقاربة بصرية لفيروس كوفيد 19، في بضعة بين عشرات الأعمال، ويقول لـ"العربي الجديد" مشيراً إلى لوحة صغيرة مؤطرة، إنها محاولة قد تبدو مباشرة لفيروس لا يتعدّى طولُه جزءاً من مليار جزء من المتر الواحد.
هذه اللوحة هي أيضاً مباشرة لما عايشه كل البشر الذين وقعوا طويلاً تحت ضغط السؤال، ما هذا الكائن بالغ الصغر الذي حتى يرفض العلماء تسميته الكائن الحي.
لكنه كان سبباً في شيوع مخاوف أكثر عمقاً مما عرفناه من أشكال بدائية: من الظلام، أو من صروف الطبيعة، كالبراكين والزلازل والأعاصير. إنه خوف من شيء يؤكد العلماء أنهم يعرفونه ويحددون لك شكله. خوف معولم يوازي ما عبّر عنه الروائي التشيكي ميلان كونديرا حين تحدث عن وحدة عالمية بحيث لا يعرف الإنسان أين هو المكان الآمن، خارج هذه الوحدة يمكن أن يلجأ إليه.
والاحتراز أحد ردود الفعل التي تتخذها كل دول العالم. وهو في بلد الفنان دهام أصبح اسماً لتطبيق على الهواتف النقالة اسمه "احتراز". وكل واحد منا لدى دخوله أي مكان عام في قطر، ينبغي أن يظهر "احترازه" بلون أخضر، اللون الذي يشير إلى أن الشخص غير مصاب، أو مُخالط لمريض كورونا.
وإذ تشير الكلمة إلى تدابير عقلانية، إلا أنها أضاءت لدى الفنان زاوية في أبعد حجرة مظلمة من الرأس، وهي الحِرز الذي لا يتسق مع العقل، بل يشير إلى تعاويذ ورُقى وتمائم.
جاء معرض "احتراز" ليكون وفق ما أشار إليه أحد الفنانين بأن على الفن أن يضايقك. قد لا يؤمن بعض منا بهذا، وفي حالة معرض "احتراز"، ستكون منتمياً إلى الصنف الأول الذي يقع تحت ضيق واقتراح لوني واحد هو الصدأ.
وفي دردشتي معه، بدا دهام، يحاور كلمتي الصدأ والصدى، مشيراً إلى أن الخوف دفع الإنسان إلى البحث عن معنى، كأنه رغم كل هذا الانفجار المعرفي يمكن أن يعود إلى بدايته ليتعرف إلى أسماء الأشياء المعايَنة، ويتأتئ في التعبير عن عاطفته وغريزته، وبالتأكيد عن خوفه المزمن.