أخيراً، انتهى عرض الموسم السادس والأخير (6 حلقات) من السلسلة البريطانية "بيكي بلايندرز" Peaky Blinders على شبكة "بي بي سي"، والذي سيصبح متاحاً على "نتفليكس" في يونيو/حزيران المقبل، ليغلق بذلك الباب على واحد من أشهر الأعمال الدرامية على الإطلاق.
استوحى المسلسل اسمه من عصابة "بيكي بلايندرز" التي تواجدت بالفعل أواخر القرن التاسع عشر في مدينة بيرمنغهام (إنكلترا)، وهي عصابة عائلية من الغجر الإنكليز، تنوعت نشاطاتها الإجرامية بين عمليات السطو والاختطاف والسرقة، واشتهر أفرادها بارتدائهم للملابس الأنيقة والقبعات المسطحة التي شكلت جزءاً من هويتهم. لكنّ المسلسل الذي تدور أحداثه بين العامين 1919و1935، يمثل إعادة تخيّل وليس توثيقاً تاريخياً لقصص العصابة وواقع بيرمنغهام في تلك الفترة، رغم ظهور شخصيات حقيقية في أدوار مفصلية في السلسلة مثل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والزعيم الفاشي أوزوالد موزلي.
في "بيكي بلايندرز" كم هائل من العنف، حيث القتل والكحول والمخدرات جزء من الحياة اليومية، إلا أن المسلسل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. من دون أن ينفصل عن السياق السياسي والاجتماعي للفترة التي تجري فيها الأحداث، يظهر العمل إنكلترا التي لم نعتد رؤيتها في الأعمال الدرامية التي تناولت بدايات القرن المنصرم، ويتغلغل في ضواحي بيرمنغهام وشوارعها الخلفية حيث تقطن الطبقات الدنيا من العمّال والغجر. ضمن هذا المناخ الاجتماعي الغارق في الفقر والبؤس الذي خلفته الحرب العالمية الأولى، يمهّد مؤلف السلسلة البريطاني ستيفن نايت للتعاطف مع العصابة القادمة من مجموعة عرقية مضطهدة، والمستعدة لفعل أي شيء يحول دون عودتها إلى القاع.
المسلسل الذي حمل في كل مرة توقيع مخرج مختلف (أنتوني بيرن تولّى إخراج الجزأين الخامس والسادس) يحكي قصة عائلة "شيلبي" المتحدرة من أصول غجرية، والتي تشق طريقها بين عصابات الشوارع بقيادة الأخ الأوسط "توماس"، وتنجح في السيطرة على بيرمنغهام، لتتوسع لاحقاً وتشكّل إمبراطورية إجرامية نتابع تنامي نفوذها من موسم إلى آخر. هذا الصعود وضع العصابة العائلية على مر السنوات في مواجهة خصوم وتحديات لا يستهان بها، وخصوصاً بعد دخول "توماس شيلبي" المعترك السياسي ووصوله إلى البرلمان البريطاني.
يبدأ الموسم الأخير باستعادة لنبوءة العمّة "بولي غراي" (هيلين مكروري): "ستنشأ حرب في العائلة وسيموت واحد منكما"، في إشارة إلى "توماس" وابنها "مايكل"، لتشكّل هذه الحرب العائلية محور الصراع الذي يستهلّ به الموسم الجديد، والمتمحور بشكل أساسي حول سعي "مايكل" للانتقام لمقتل والدته والاستحواذ على السلطة، بمساعدة زوجته الأميركية "جينا" (آنيا تايلور-جوي) وعمّها رجل العصابات الشهير في نيويورك "جاك نيلسون" (جيمس فريشفيل). على خط مواز، تستمر تداعيات محاولة اغتيال "أوزوالد موزلي" (سام كلافلن) الفاشلة من قبل "توماس شيلبي"، فنحن في بداية الثلاثينيات والفاشية تتقدم كشبح مخيف يخيّم ليس على عائلة "شيلبي" فحسب، بل على بريطانيا بأكملها، فيما تلوح ظلال الحرب العالمية الثانية في الأفق.
لكنّ التركيز الأساسي لحلقات هذا الموسم كان على "توماس شيلبي"، كإنسان محطّم من الداخل وليس كزعيم للعائلة. فالجندي الذي حارب مع الجيش البريطاني في فرنسا لم تفارقه أشباح الموت ولو للحظة، ولكنها الآن أشدّ زخماً بعد فشله في التخلص من أعدائه، وانهيار حياته العائلية، والندم الذي يأكله بعد أن وصل إلى نقطة اللاعودة. "توماس" الذي كان دائم البحث عن العدو الذي لن يستطيع هزيمته، أدرك متأخّراً أنّه عدو نفسه الأكبر، وأنّ طموحه اللامحدود قد جلب الخراب للمحيطين به، وتسبب بفقدانه للقلائل الذين أحبهم حقاً، لينتهي وحيداً، متخبطاً بين الألم والخسارات.
كذلك، يحضر في هذا الموسم عالم الماورائيات والقوى الغامضة المرتبطة بالجذور الغجرية للعائلة. فالآثام التي اقترفها "توماس" لا تفلت من لعنة الغجر. ونبوءات عمّته بولي تطارده في أحلامه. وصوت أنفاس زوجته المتوفاة "غريس" (أنابيل واليس) يسكن أذنيه طوال الوقت، ليذكّره بأن اللعنة التي سلبتها حياتها لم تنته بعد.
تركّزت الانتقادات للموسم السادس والأقل دموية من "بيكي بلايندرز" على بطء الأحداث بالنسبة للمواسم السابقة، ولكن هذا التوجه سمح بالتوغّل أكثر في عالم "توماس شيلبي" المظلم وشياطينه الداخلية، فشخصيته الزاخرة بالمتناقضات شكّلت منذ انطلاقة العمل عامل الجذب الرئيسي، خاصة مع الأداء المبهر لكيليان مورفي الذي أصبحت إيماءاته وطريقة كلامه وعباراته الشهيرة ماركة مسجلة باسم المسلسل.
في مقابل التركيز على "توماس شيلبي" همشت الحبكات الفرعية، فاقتصر دور"آرثر" (بول أندرسون)، الأخ الأكبر المتهوّر والأقل حكمة، على معاناته مع الإدمان، واختزل دور الأخت الصغرى "آيدا" (صوفي راندل) في محاولتها ملء الفراغ في العائلة بعد الغياب القسري لشخصية العمّة بولي (توفيت الممثلة هيلين مكروري في إبريل/ نيسان 2021)، والتي تحسب للعمل استعادة مشاهد سابقة لها من خلال الذكريات والأفكار التي تدهم "توماس" من حين لآخر، مما ساعد على إبقائها حاضرة قدر الإمكان على امتداد الحلقات.
بنهاية مفتوحة على الكثير من التكهّنات اختتم الموسم الأخير من المسلسل الملحمي، ليبدو بمجمله، وبوجود الكثير من الخطوط الدرامية التي لم يتم إغلاقها، كتمهيد للفيلم المقبل الذي أعلن عنه ستيفن نايت والذي من المتوقع أن يتناول الحرب العالمية الثانية والصراعات بين الأجيال الجديدة من العائلة.