"حارة القبة": حكاية مشوقة برؤية جديدة
نور عويتي
لم تلقَ الحلقات الأولى من مسلسل "حارة القبة" إقبالاً جماهيرياً بداية الموسم الرمضاني، بسبب توقّع المشاهدين أن تكون فكرة العمل مكررة ومعاد تصنيعها عن حبكة مسلسل "ليالي الصالحية" (2004) الذي تدور أحداثه حول أمانة تركت عند "المعلم عمر" (عباس النوري)، ويحاول ابن عمه "المخرز" (بسام كوسا) أن ينصب له الفخاخ لانتزاعها منه.
وكانت الحلقات الأولى من "حارة القبة" توحي بذلك، إذ تبدأ عند بطل المسلسل "أبو العز" الذي يلعب دوره عباس النوري أيضاً، والذي يستلم أمانة من والد زوجته الثانية ليقوم بتخبئتها، بينما يحاول أن يستولي عليها البطل المضاد "غازي بيك" (خالد القيش).
إلا أن أحداث العمل تصاعدت بسرعة بعد ذلك، لتأخذنا في مسار عكس المتوقع، وعلى إيقاع مشدود ومتماسك، لتروي لنا حكاية درامية مشوقة في بيئتين مختلفتين؛ الأولى ضمن الحارات الدمشقية التي انحصرت فيها مسلسلات البيئة الشامية وحقبة بداية القرن العشرين، والثانية في ضيعة في محيط دمشق تخضع لسيطرة الإقطاعي "غازي بيك".
امتلك العمل رؤية درامية جديدة، لم نعتد عليها في السنوات الماضية في أعمال البيئة الشامية التي كانت دائماً ما تستهدف الحياة المنغلقة داخل الحارات الدمشقية فقط. فمن خلال المزج بين هذه البيئة وبيئات أخرى، قدم المسلسل تركيبته الخاصة والمتوازنة، ربط فيها الشخصيات في تلك البيئات المختلفة بطريقة مقنعة. ومن خلال ذلك، سلط المسلسل الضوء على الاختلافات الثقافية بين المدينة والقرية في تلك الحقبة، لنرى كيف كانت النساء تعيش في القرية حياة أكثر انفتاحاً مقارنة بما يجري داخل الحارات الدمشقية؛ فنساء القرية يجالسن الرجال ويتسكعن من دون غطاء الرأس، ويفتخرن بقصص الحب التي عاشوها أمام أهالي القرية. في المقابل، تبدأ المشاكل في بيت "أبو العز"، عندما يكتشف "طبنجة" (فادي صبيح) الحب السري الذي يجمع ابنة "أبو العز" بجارها، وتكاد "أم العز" (سلافة معمار) أن تنفى من منزلها وتطلّق لخروجها تحت تأثير الخشخاش بالـ"قرعة"، أي من دون حجاب.
ما يميز المسلسل هو تمكنه من خلق حكاية مترابطة تشبه إلى حد كبير الحكايات الجديدة التي نسمعها في سورية، على لسان الجدات عن تلك الحقبة الزمنية؛ فمحاكاة هذا الإرث اللامادي بشكل درامي مقنع يعتبر إنجازاً يحسب للمسلسل. يتولد الجانب الأسطوري في حكاية المسلسل الشعبية عبر خيالات "أم العز" التي تعتقد منذ البداية أن صندوق الأمانة يحبس داخله روحاً حزينة، وعندما يخبئ "أبو العز" الصندوق داخل أحد الجدران، وتظهر عليه علامات تسرب المياه منه، تردد: "الحيط عم يبكي"، ليزداد شكها حول فرضية الروح المحبوسة في الصندوق، فتطلب تفسيراً من "أبو الأحلام" (محمد حداقي)، فيقول لها إن الحائط يبكي عليهم وعلى ما سيحل بهم من مصائب.
تبدو بصمة المخرجة رشا شربتجي في المسلسل واضحة، فمن غير الممكن الحديث عن المسلسل من دون التطرق إلى اللحظات الإبداعية التي تمكنت شربتجي من صناعتها، ولا سيما في المشاهد التي تجسد معاناة النساء في تلك الحقبة الزمنية، كمشهد إجهاض "غندورة" (إمارات رزق) لطفلها بعد تعرّضها للاغتصاب. من خلال مشهد واحد، تمكنت شربتجي من اختصار الآليات البدائية التي كانت تستعملها النساء للإجهاض بصورة جمالية ومؤلمة، تبين الخطر الصحي الذي كانت النساء تعيشه آنذاك، وتختزل بلحظات كل عذابات النساء المغيبة في دراما البيئة الشامية.
ومن الخطوط الدرامية المهمة التي رسمها المسلسل، هو ذلك المتعلق بـ"السفربرلك" والتجنيد الإجباري. فعلى الرغم من مسلسلات شامية لحكايات "السفربرلك" من قبل، إلا أن ذلك كان يتم بطريقة سطحية تقتصر على اختفاء المطلوبين في بداية المسلسل وعودتهم سالمين في نهايته السعيدة. لكن "حارة القبة" تمكن من الغوص في الأمر أبعد من ذلك، من خلال خط شخصية "عادل" (يامن الحجلي)، وما يتضمنه من محاولات للهروب، بالإضافة إلى تصوير العنف الجسدي والنفسي الذي يتعرض له الجنود، كما أن في المعالجة إسقاطات مستوحاة من الشارع السوري اليوم الذي لا يزال يعاني من تعسف قوانين التجنيد الإجباري.
لكن أسوأ عناصر عمل رشا شربتجي هو الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية بلا شك التي تبدو وكأنها امتداد للموسيقى التصويرية الفاقعة التي كان يستخدمها والدها في مسلسلاته الكوميدية، وكان يؤلفها رضوان نصري بطريقة مشابهة لصناعة المؤثرات الصوتية في أفلام الكرتون.