يصنع المخرج الأيسلندي فلاديمار يوهانسون فيلمه الروائي الطويل الأول "حَمَل" (Lamb)، بعد نشاطه المتنوع، لمدة تتجاوز العقدين، في مجال صناعة السينما الأيسلندية. ولعل الانتظار لم يكن عبثًا؛ إذ يقدم فيلم يوهانسون الجريء مزيجًا متجانسًا بين الكوميديا السوداء، والرعب النفسي، والدراما، وأجواء الحكايات الشعبية، تاركًا المشاهد في حالة من الترقب والتوتر حول ما سيحدث عبر ثلاثة فصول تحمل معها احتمال حدوث كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق.
تدور أحداث الفيلم في بلدة أيسلندية نائية، وفيها يملك الزوجان ماريا (نومي راباس)، وإنغفار (هيلمير سناير غوناسون)، مزرعة ريفية، حيث يحلبان الماشية ويحرثان الأرض بكآبة وضجر، ينعكسان على وجهيهما الشاحبين، وعلى أحاديثهما القصيرة التي لا تتجاوز الكلمات القليلة خلال النهار بأكمله. وفقط، عندما يعتقد المشاهد أنه أمام فيلم آخر عن رتابة الحياة اليومية وتكرارها، يأتي القسم الثاني منه لينسف تلك الفكرة، إذ يُفاجأ الزوجان بوضع إحدى نعجات الحظيرة الخاصة بهما مولودًا غريبًا، نصفه بشر ونصفه الآخر حَمَل، ويقرّران أخذه في كنفهما، ليحل محل ابنتهما المتوفية، آدا، ويحمل اسمها أيضًا.
يتميز الفيلم، الذي تشارك في كتابته المخرج يوهانسون مع الشاعر والسيناريست الأيسلندي Sjón، شريك كل من بيورك وروبرت إيغرز، بنغمة غريبة لا نجدها إلا في أفلام إيغرز نفسه، حيث الصلات غير المفهومة، والتي ليس من الضروري أن تُفسر، بين البشر والحيوانات، والطبيعة الهائلة والمخيفة التي تتحدث إلى الإنسان عبر خرافات وأساطير ولعنات، والعزلة التي تنال من المرء، وتدفعه إلى تحدي الطبيعة والحيوانات العدائية، التي تعود دومًا للانتقام ممن تخطى حدودها.
تكبر آدا في منزل الزوجين اللذين أمسيا أكثر سعادة من أي وقت مضى، وترتدي ثياب أطفال يبدو أنها تعود لابنتهما الراحلة، وحتى أنها تُدعى لاستقبال العم بيتور القادم في زيارة مفاجئة، وتنجو من بندقيته بفضل وجهها المحبب والبريء. إلا أن المشاهد يستشعر، على الرغم من كل تلك التطمينات، بأن شيئًا ما مخيفًا على وشك الحدوث؛ صراع ما بين التربية والطبيعة سينجح في استعادة المخلوق الغريب إلى حيث ينتمي. وبالفعل، لن يمضي وقت طويل، قبل أن يحضر كائن غريب، مشابه في حد ذاته لآدا، فينتزعها قسرًا من عائلتها المتبناة إلى مصير يبقى مجهولًا للمشاهدين.
لا يفصح المخرج يوهانسون عن حكاية فيلمه بسهولة، فيلجأ إلى الخدع السردية التي تنحت القصة بطرق غير متوقعة، لكنه لا يتعجل في عرض النتائج أو إعطاء الدروس أيضًا، بل يتقن فن إخفاء الصورة الكاملة، ليمنح مشاهده ما يكفيه كي يبقى متلهفًا، وأقل بكثير مما قد يرضي فضوله، أو يسمح له بتوقع الأحداث.
يتلاعب المخرج بالمشاهدين إلى آخر رمق، مخفيًا شكل المولود الجديد الذي لا يتكشف لأعين المشاهدين إلا تدريجيًا. وبعد مضي أكثر من نصف الفيلم، متسببًا بصدمة بصرية مرعبة، نجح في تحقيقها كل من فريق تحريك الدمى وفنيي المؤثرات البصرية.
كما يعمد المخرج إلى تكثيف الحوارات، فالصورة أشد تأثيرًا من الكلمة عبر الفيلم، والأحاديث قليلة. وهي عند وقوعها، لا تتجاوز ثرثرات الحياة اليومية. في حين يقدم جزءاً كبيراً من المعلومات على شكل صور بصرية غير مباشرة، كإخراج الوالد لسرير الرضيع من المخزن، في لحظة يدرك فيها المشاهد وجود مأساة سابقة ما في حياة هذين الزوجين، أو الإيحاء بوجود وحش ما على وشك تخريب حياة الزوجين الهشة، من دون تأكيد ذلك إلا عندما يطلق الكائن الغريب النار على إنغفار.
يقارب يوهانسون تجربة احتضان كائن جديد إلى العالم، بمثال متطرف هذه المرة. لا تشعر ماريا ولا زوجها إنغفار أن هناك شيئاً يثير الاستغراب في تلك الظاهرة الغريبة، التي وقعت في حظيرة منزلهما، حتى أنهما لا يشعران بضرورة الحديث عنها، بل سرعان ما يتلقفان المولود وكأنهما كانا بانتظاره منذ الأزل بوصفه "هدية" و"فرصة لحياة جديدة"، كما يخبران زائرهما العم بيتور، الذي ينفر بداية من "تطبيع" تربية آدا، ثم لا يسعه إلا أن يحبها هو الآخر. لا شيء يستدعي الشرح، أو هذا على الأقل ما يعتقد به صانع الفيلم، الذي يسعى إلى إثارة حواس المرء ودفاعاته ومعها غرائزه الأولى، وربما دفعُه إلى اختبار مسألة تقع خارج حدود منظومته الأخلاقية والفكرية.
يطرح الفيلم سؤالًا مهمًا عن مفهوم الإنجاب، ويضعه موضع التساؤل إلى حد قد يبدو فيه فيلم يوهانسون الأول فيلمًا مضادًا لفلسفة الإنجاب، البشرية على الأقل؛ فهل رغبة الزوجين في رعاية شيء ما، أي شيء، هي التي دفعتهما إلى احتضان آدا؟ وهل هناك حياة تنتظر النعجة الآدمية، الوحيدة من نوعها، غير تلك التي تعيد فيها البهجة إلى حياة الزوجين غير السعيدين؟
يصر الزوجان على تدجين آدا وانتزاعها من محيطها الطبيعي لضمان بقائها معهما، حتى أن ماريا تقرر قتل والدة النعجة ودفنها بعيدًا عن المنزل، كي لا تعود وتسترد مولودتها. وفي حين يتم إغراق آدا بالأنشطة البشرية، إلا أن هويتها "الحيوانية" تهمل تمامًا، لا بل يُوبخ بيتور عندما يطعمها العشب من إحدى نباتات الزينة. تزداد المعضلة تعقيدًا، مع إظهار عاطفة الأمومة والأبوة بوصفها غريزة لا يمكن مقاومتها، فتتشبث ماريا بالمولود الغريب حال رؤيته، وكذلك تصر الأم النعجة على ملازمة شباك منزل الزوجين، حيث ترقد مولودتها في الطابق العلوي ملفوفة ببطانية.
هناك عدة زوايا لفهم قصة الفيلم الذي أنتجه بيلا تار بالتشارك مع الممثلة نايومي راباس. هل كان Lamb حكاية عن المسوخ والمجتمع، اقتداءً بما سبقه من فيلمي "رأس الممحاة" و"الرجل الفيل" للمخرج ديفيد لينش؟ أم أن يوهانسون يستكشف فقط جنون العزلة والدوافع الغريبة التي يمكن أن تأتي مع الشعور بالوحدة في وسط اللامكان؟ أم أنه فيلم بنزعة بيئية، يشرّح عناد البشر ورغبتهم المستمرة في تحدي الطبيعة لأهدافهم الشخصية، إذ تعود هذه الأخيرة في نهاية المطاف لتسترد ما هو ملكها؟ أم أنه فيلم عن الهوية الفردية، خاصة هوية الطفل، في عالم متشدّد ومتطرّف؟ أم حكاية ساخرة أخرى عن التناقض البشري الذي يسمح لزوجين بتربية حَمَل داخل منزلهما، ولا يمنعهما عن تناول لحم آخر، كما نلحظ في المشهد الأول من الفيلم؟
هل يتحدث الفيلم عن وهم العيش المطمئن؟ حيث السعادة التي تتحقق عبر تلقف كل ما تقذفه الحياة ثم التشبث به باعتباره آخر الآمال؟ ثم تفشي تلك السعادة الواهمة وانقلابها على رأس كل من يحاول مخادعة نفسه عبرها.
ينطوي الفيلم على تأويلات عدة، لكن الغموض هو أشد ما يجذب في تلك الحكاية غير الواقعية. لا إجابات جاهزة واضحة، ولا عبر معلبة. وعلى المشاهد وحده فقط، سبر الأغوار العميقة والمتعددة لتلك الحكاية.