هذا كادراج (تأطير) هيتشكوكي في فضاء ديناميكي، تكدح فيه شخصيات متباينة الأمزجة لتكسب رزقها. هذا مُبرِّر كافٍ لتتبعها الكاميرا. هناك اشتغال عميق وكثيف على خلفية اللقطات، بالضوء الخافت، واللون الحالك، واستثمار النوافذ المفتوحة، للإخبار بما يجري في الخارج. هذا وسّع أفق التصوير الداخلي، ومدّده. إلى قوّة الصورة، هناك إشباعٌ للأذن. يُمكن الإصغاء إلى الشريط الصوتي مُستقلاً، ليظهر ثراؤه، خاصة في تصوير خيامٍ يهطل عليها المطر.
هذا كلّه في "زقاق الكابوس" (2021) لغييرمو دِلْ تورو (عن رواية بالعنوان نفسه، للأميركي ويليام ليندسي غريشام، صادرة عام 1946. السيناريو لكيم مورغان ودِلْ تورو).
لكنْ، كيف كانت التسلية قبل ظهور التلفزة ويوتيوب ومنصّات المُشاهدة؟
للمخرج المكسيكي دِلْ تورو، الذي يعمل في هوليوود، جوابٌ مستلّ من عالم السيرك، الذي وفّر منجم خِدَع بصرية كثيرة للسينما. يقدّم ديكور السيرك رسوماً لما يجري في الداخل، على أبواب خيام الفرجة. رسومات تشبه "ستوري بورد" (مخطّط القصة على الورق قبل التصوير). يعرض السيرك والفيلم اختبار أجساد الممثلين والحيوانات. اقتبست السينما كوميديا السيرك في بداياتها، وكان تشارلي تشابلن رائداً في استخدام الإيماء، وحصل على نجاحين، فني ومالي، مُدوّيين، حتّى أنّه تقاعد باكراً، وأقام في سويسرا.
تقدّمت فرجة السيرك بفضل اختراع الكهرباء، وتطوّر الميكانيكا. وتقدّمت السينما بفضل تطوّر تقنيات التصوير. لكنّ المحتوى واحد: يقف الممثل الكوميدي في السيرك على الخشبة، ويتحدّث، مستثمراً خبرته في جلب الجمهور، لأنّ عِماد اقتصاد السيرك شبّاك التذاكر، ولا يتلقّى أي دعم. هذا تحدٍّ فني كبير.
كانت تسليةُ الشعب مُنهِكة بدنياً، في كلّ مرة يقف فيها البطل أمام الجمهور. كان عرض مجنون مقيَّد مُسلّياً للشعب العدواني، الذي يدفع من جيبه ليرى مجنوناً في قفص. ابتسم الحظّ لستانتن "ستان" كارلايل (برادلي كوبر)، فانتقل من تسلية الفقراء إلى تسلية الأغنياء. تمكّن البطل الطموح من تحقيق هدفه. لكنّ جشع الروح الإنسانية لا حدود له. هنا، يتقرّر مصير صيّاد النعام.
ما مصير الفنان الذي يستغلّ فنّه للارتزاق؟ الفنّ وعدٌ بالسعادة، لا وسيلة للانتهازيين. صيّاد النعام حكاية عتيقة عن البشر والحيوانات. هذا مجال اشتغال غييرمو دِلْ تورو، الذي صوّر حكاية "صيّاد الغيلان" (سلسلة رسوم متحركة، 3 مواسم، 39 حلقة، "نتفليكس") مانحاً شخصياتها ملامح منحوتات حضارة الأزتيك. حضرت هذه المرجعية في "شكل الماء" (2017)، الفائز بـ"الأسد الذهبي" في الدورة الـ74 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2017) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، وبـ4 جوائز "أوسكار" (4 مارس/آذار 2018)، أبرزها في فئتي أفضل فيلم وأفضل إخراج. فيه، يُشبه الوحشُ المعشوق تمثالاً أزتيكياً يستعدّ لتناول البيض.
المرجعية نفسها حاضرةٌ في "زقاق الكابوس"، في الدمية المحنّطة في قارورة، وفي ديكورات السيرك ودُماه. هذا تقليد فني عريق لدى المخرجين، الذين يبنون لغة سينمائية خاصة بهم. في مسألة التناص البصري بين النحت والسينما، استعار أندريه تاركوفسكي أيقونات الراهب النحّات أندريه روبليف، في "أندريه روبليف" (مُصوّر عام 1966، وجاهزٌ للعرض عام 1969). من منحوتاته، صُنع مشهد الشجرة الوحيدة على هضبةٍ في أفلام تاركوفسكي. مخرجون عديدون اقتبسوا هذه اللقطة.
حوّل دِلْ تورو الحكايات إلى أفلامٍ ومسلسلات، فمنح الأحجار القديمة حيويّة على الشاشة. هذا خلق هوية فنية قوية لأفلامه. اتّخذ من نحت الأزتيك مرجعية بصرية لشخصيات أفلامه. في نسخة "زقاق الكابوس" (1947) لإدموند غولدينغ، كانت الخلفية فرعونية، بالأسود والأبيض. في نسخة دِلْ تورو، الخلفية بالألوان، بإضاءة ساحرة (المُصوِّر الدنماركي دان لاوتْسِسن). ليست صدفةً أنّ الفيلم مُرشّح لجوائز "الجمعية الأميركية للمصوّرين" مع 4 أفلام أخرى. فيه، أُشْعِلَتْ نحو 20 سيجارة لتصوير وميض الفوسفور في عود الثقاب، المُنقرض حالياً. تكرار غير مملّ، لأن مدير التصوير ماهر، التقط الحدث من زوايا مختلفة.
الإخراج ترجمة سينمائية للحكاية الأدبية. ترجمة بصرية للسيناريو، كي يُرى. ابتكارُ مُعادل موضوعي بصري للحدث وللحكاية، حين جعل المخرج البطل الخُرافيّ لـ"شكل الماء" يشبه منحوتة الأزتيك. لا شكل للماء، ولا طعم. لكنّ دِلْ تورو منحه شكلاً، ومنح السينما المكسيكية أفقاً عالمياً مُستمراً، مع أليخاندرو غونزاليز إيناريتو وألفونسو كوارون. لم يكْتف دِلْ تورو بالـ"أوسكار"، وبمقالات نقدية، فأفلامه حقّقت نجاحاً جماهيرياً، وهذه أكبر جائزة لأيّ مخرج.
القزم صديقٌ ومساعدٌ في "زقاق الكابوس"، لكنّه عدوّ في الموسم الأول من سلسلة "صائد الغيلان". هنا، اقتحم دِلْ تورو التحدّي الأصعب: الحكي للأطفال، مجرّباً إياه في بيئة تعليمية عصرية. يسترجع الحكي الزمن الماضي، حين تدخل الشخصيات متحفاً مجاوراً. في الحلقة الثالثة، درس عملي: قبل أنْ تُقاتل، يجب أنْ تعرف لماذا تقاتل. يصرخ مُطارد القزم: "يا مِنشاري الجميل".
يتميّز سرد الحكايات الشفوية باقتصاد رهيب. في سطرين، تنتهي الحكاية، وتصل الرسالة، ويُحلّ اللغز، ويكتشف المتلقّي موقعه فيها. انتقل هذا الاقتصاد في الحكي إلى الإخراج. في الـ"كاستينغ"، تمّت إدارة الممثلين لإظهار الفعل وردّ الفعل الصادرين عن العقل الباطن. تظهر حركة وتجاوب وحوار وصدمة، وانفعالات متبادلة ناتجة عن الصراع. صوّر المخرجُ كايت بلانشيت بطريقة مذهلة، ليعرض عجرفة رهيبة تُخفي سرّاً. أظهر المخرج سِمات الشخصيات من خلال صلاتها. صوّر علامات الصلة، لا الشخصية، وصوّر مشاعرها تجاه مَنْ حولها. هنا، تَعرض الكاميرا روح الشخصية، لا وجهها فقط.
في اللقطات، يتشكّل المشهد كما في الرسوم المتحركة. هناك مشهدٌ يتحرّك فيه عنصر واحد فقط. يتتبّع المصور نقطة واحدة، يختبرها ويُعمِّقها بعد النصف الثاني من الفيلم. كما في الحكايات الشفوية، يبدو النصف الثاني نقيض الأول. ما كسبه البطل في الأول، خسره في الثاني.
هذا البحث البصري، والحكي الإنجيلي، والتصوير التشكيلي، ثمرة عمل طويل، لا نتيجة صدفة.