رجلٌ يجلس إلى طاولة، بيدين مكبّلتين. يُخرج من جيب سترته علبة سجائر. يُشعل واحدة. يُخرج من الجيب الأخرى علبة تونا، يفتحها ويضعها على الطاولة. يبدو أن في جيبه متّسعاً للكثير. سيخرج قطّةً، أيضاً، ويتركها تأكل من علبة التونا. على الجهة الأخرى من الطاولة، يجلس محقّق ومحقّقة. الأخيرة تتوجّه بسؤال للرجل: "من أنت؟"، لتظهر لنا على الشاشة الإجابة: Nobody. وهي عنوان الفيلم الذي أخرجه الموسيقي الروسي إيليا نيشولر.
نعود في الزمن إلى الوراء؛ مواطن أميركي مثالي، ينهض باكراً للحاق بسيارة جمع القمامة، يغتسل ويحضر الإفطار، يتناوله وعائلته المكونة من زوجته وابنه وابنته، ثم يمضي إلى عمله كمحاسب في شركة ما. في إحدى الليالي، يقتحم لصّ ولصّة بيته، يعطيهما دولارات قليلة، وحين تُتاح له الفرصة كي ينال منهما، لسبب ما، لم يفعل.
في ليلة أخرى، تلت تعرّض بيته للسرقة، يجلس هاتش مانسيل (أدّى الدور بوب أودينكيرك) في باص المواصلات العامة. تصعد إلى الباص مجموعة من الشباب المتسكعين الثّملين، ويتحرّشون بفتاة تريد أن تصل إلى بيتها بأمان. ذلك الرجل، العادي، الذي لم يجرؤ على الدفاع عن نفسه حتى حين سنحت له الفرصة، يتحوّل إلى ما يشبه بطلاً خارقاً؛ إذ ينال من الشبّان جميعاً، ويترك الفتاة لتغادر بهدوء.
أحد هؤلاء الشبّان قُتل، لنكتشف أنّه شقيق زعيم عصابة مافيا روسية، لا يعرف الرحمة. ليجد هاتش نفسه متورّطاً مع هذه العصابة. وحين يكتشفون هويته، وطبيعة عمله، يقرّرون إلقاء القبض عليه حيّاً، وتبدأ المطاردة.
رغم تقليدية القصة التي سبق أن شاهدناها في أفلام كثيرة، أبرزها سلسلة "جون ويك" (بطولة كيانو ريفز)، وسلسلة Taken (بطولة ليام نيسون)، إلا أنه يبقى لـ Nobody نكهة خاصّة، تختلف عن كثير من الأفلام التي اتخذت هذا الشكل؛ رجل يبدو مسالماً، يجد نفسه مُطارداً من قبل مافيا خطيرة، غالباً ما تكون روسية.
في Nobody، هناك جرعة مميزة من العنف، لكن من دون إفراط ومجانية. ذلك "البطل الخارق"، يتعرّض للإيذاء، ويمكن أيضاً التفوّق عليه، وهو عرضة لتلقّي الرصاص والإصابات، ويمكن قتله في أي لحظة، لكن ما يحول دون ذلك كله ليس ذكاءه وحسب، بل حسّ الفكاهة الخفي الذي يتمتّع به؛ إذ يتعامل مع كل ورطته هذه بنوع من اللاجدية، كما لو أنّها مهمّة بسيطة عليه أن ينجزها ويتخلّص منها كي يعود إلى عائلته ويمضي معها وقتاً يجعله إنساناً طبيعياً، وليس مجرّد آلة عنف وشجار وقتل.
فعلياً، هو تخلّى عن هذه الحياة برمّتها كي يحظى بهذا الوقت الجميل مع عائلته، كأي مواطن أميركي "طبيعي". لكن، كما يتضح لنا في الفيلم؛ فأميركا ليست دائماً ذاك الحلم المُسالم والهادئ. لا، وإنما قد يتحول أي شخص في لحظة، بسبب صدفة تافهة، إلى قاتل، أو قد يجد نفسه في أي لحظة، بسبب فعل نبيل أقدم عليه، عُرضة للخطر، هو وعائلته وكل من حوله. ماذا فعل الرجل سوى أنه أنقذ فتاة من حفنة من السّكارى والمتحرّشين؟ ارتدّ هذا كله عليه بسلسلة غير متناهية من العنف.
لا يحاول الفيلم ادّعاء أي عمق ما، كما يفعل كثير من الأفلام التي تنتمي إلى هذا النوع أو تلك الفئة؛ إذ نجد فيها البطل رجلاً يحاول حماية منظمة إنسانية من الأشرار، أو حماية مدينة بأكملها، ويكتشف أن هناك مؤامرات تُطهى على أيدي مافيات المهاجرين، الروس والطليان وغيرهم، ويعتبر نفسه مُخلّصاً ومُنقذاً.
يمضي Nobody، في ساعة ونصف، بعرض ممتع ومسلٍّ، لا يفرض شيئاً على المشاهد، ولا يُقحِم أي ادّعاءات ومزاعم سينمائية. ورغم ذلك، ينجح المخرج إيليا نيشولر في نيل إعجاب الجمهور والنقاد، خصوصاً باختياره لبوب أودينكيرك لأداء دور البطولة. الأخير معروف بدوره في مسلسل Better Call Saul، حيث أدّى دور المحامي "الشهير"، سول غودمان. لكننا، في Nobody، نتعرّف إليه كممثل في فئة أفلام الآكشن، وقد أدّى دوراً لافتاً يجعل منه ممثلاً جديراً بهذه الأدوار.