في الرابع من إبريل/نيسان 2017، في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً؛ دُعيت للمشاركةِ في أحد الصباحات الربيعية الباردة في بيت عبد الرحمن اليوسف، في حي ساروجة الدمشقي.
نحو تلك الغرفة المتهالكة؛ سحبتني اللوحاتُ الجدارية لأدخُلها على عَجل. على جدارها المواجه للمدخل، تراصفت مجموعةٌ من الأشجار الوارفة التي استطاعت انتشالي من صدمة اللقاء الأوّل، حيث كلّ هذا الخراب المحيط. سرتُ نحوها محمولةً على شغفٍ أغرقني في ذلك الفضاء المدهش والغنيّ بالتّفاصيل الموزّعة في كلّ مكان. قطع شرودي زميلي الذي كان بدوره قد سبقني إلى المكان، يقفُ متأمّلاً، إذ كان مشغولاً في تحديدِ النّقاط الأساسيّة اللازمة لجهاز الفارو (جهاز يستخدم لعمل مسح ثلاثي الأبعاد لمساحة 360 درجة من أي مكان يوضع فيه). ومن أجل إظهار خامة رقمية دقيقة، شاركته بإبعاد ما أمكن من المورينات المتهشمة (جذوع أشجار، تكون في الغالب من شجر الحور، وتُستعمَل في الدّعامات الإنشائيّة لرفع السّقوف). انتظرتُ، يومها، خروجَ زميلي لأعيدَ استكشاف محتويات الغرفة التي توزّعت في الأرجاء: في زوايا مخبأةٍ، وتحت جنبات الرّكام.
في باحةِ المنزل السّماويّة، تقاسمتُ مع فريق العمل أركان القصر التّاريخي. وكان تقسيمُ العمل يتمّ بالاعتمادِ على المسقط الهندسي، الذي سيكونُ نقطة الاستنادِ التي سنتوزّع من خلالها في شتّى القطاعات، لتبدأ بعدها عمليّة المعاينةِ والتّوثيق.
في إحدى النقاط، وتحديداً تحت ركام إحدى النّوافذ، قادتني قطعة مخفية لأن أنقب فيها بأظافري، لمسَت يداي مجلّدين، إنّهما ألبوما صور. أحدهما كبيرُ الحجم، والآخر صغيرٌ تداعى عليه اهتراءٌ واضح. تسارعَ النّبضُ وأنا ألمسُ ذلك القماش المخمليّ: أخضرُ اللّونِ بزنّار ذهبيّ رفيع. فتحتُ درفته المخمليّة الخضراء، وأنا أتجهّزُ بشهيقٍ عميق، واحد تلو الآخر. سرعان ما تسلّلَ التّعبُ إلى الرّكبتين! جلبتُ الألبومين، وجلستُ فوق الرّكام. كنتُ أقلّبُ الصّفحة الأولى وكأني سارقٌ يُعيد قنْصَ ممتلكات داره المُحرّرة، ويخفيها لسببٍ ما عن الأعينِ الحاضرة. كان التّلفُ يتسرّبُ يمنة ويسرة، ولكنّي كنتُ أتمْتمُ في سرّي راجيةً ألا يباغتني أحدٌ ويشاركني في هذا الكنز. غير أنّ دقائق قليلة مرّت، وتلاشى معها ذلك الحاجزُ الزّمنيّ. كان العبورُ أبسط ممّا توقعت. إنّ الزّمن، هنا، وكما نتخيّله نحن الذين نقطنُ في الضّفةِ الأخرى؛ هو أخفّ صخباً، وأعتقُ من بقيةِ الألوان المنتشرة.
من بعيدٍ، وقفتُ كمَنْ يُمْسكُ تلابيبَ ذاكرةٍ ممزّقة. أتلصّصُ إيوانَ العائلة وجلساتها، أمسياتها الدّافئة وزياراتها الوفيرة. جلْتُ في المكان، خبّأتُ ما تيسّر من تذكاراتٍ لنقوشٍ وزخارف تكسو الجدرانَ والأسقف. اللّوحاتُ الجداريّة القماشيّة كان تفترشُ مساحاتٍ كبيرة من البيت. لقد سوّروا بيتهم بسورٍ شجريّ أخضر. "أفاريز" جصيّة تزنّر النّوافذ، حُفرت بعنايةٍ فائقة. كوى وكتبيات، سواكف أبوابٍ ذات نقوشٍ نافرة. فاجأني كلّ ذلك، وحفرَ عميقا في ذاكرتيّ التي تزدادُ رسوخاً مع التّنقيب والبحث عن الآثار.
في الإيوان، كانت تجلسُ مجموعةٌ من السّيدات. كان الأمر بحاجةٍ لبعض الجرأة والتفافة من العين للاقتراب منهنّ. إحداهن التقطتني بنظراتٍ خاطفة. دخلني الفزعُ مع خطواتها المتّجهة نحوي. في هذا المكان، نخافُ أحيانا لأسبابٍ مفهومة. رفعتْ يدَها وقدّمتْ لي لفافة تبغ، ودعتني إلى احتساء القهوة في شرفة البيت. في هذا المكان، ولأسباب غير مفهومة، نفعلُ خلاف العادة. سحبتُ من اللّفافة مرّات كثيرات، أنا التي لا أستسيغ مذاق التّبغ ولا رائحته. غصتُ في الكرسيّ وشددتُ ظهري بهدوء، وأغمضتُ عينيّ المسقوفتين بارتخاءٍ خفيف. كنتُ أعلنُ للسّيدة استعدادي للإصغاءِ إلى حكاياتها. انهار الكحل الذي يغطي عينيها الفاحمتين. اغتسل السّوادُ بالدّموع والأنفاسِ الذّابلة. كانت بوجهٍ ممتلئ بخدّين مرفوعين، وشعرها قصيرٌ تقاسمَ مع عينيها اللّون ذاته. كيف يجتمع هذا التّباهي مع هذا الحزن الطّافح؟ لكنّي لم أسألها عن ذلك، وأظهرتُ لها مدى سعادتي بوجودي هنا، وبغبطة لكلّ منْ يعيشُ في هذا المكان ويسكنُ في أدقّ تفاصيله. يعاودني، لبرهة، ذلك الخوف الغامض من سؤال قد يبدو بديهيّا، وطبيعيّا: "من أنتِ؟ ماذا تفعلين في دارنا؟". تبدّد القلقُ سريعا، إذ طبعت السّيدةُ الارتياح على تقاسيم وجهها، وشعرتُ للحظةٍ بتجاوزنا، معاً، عتبة التّعارف، وأخذت تسترسلُ في حكاياتها اليوميّة، وتظهر بشارتها بمولودها الجديد الذي جلبَ لها السّعادة، وبعد أن كانت قبل قدومه محبوسة في قوقعة السّاعات الطّويلة. كانت تحدّثني عن "فارس الوقت" الذي يحرسُ ليلها باللآلئ والنّجوم.
سألتها بفضول عن مكانها الخاصّ في البيت: "أيّ ركنٍ هو الأقرب إلى قلبك في هذا البيت الكبير؟!". أشارت بعينيها إلى تلك الغرفة: "ماذا؟! إنّها الغرفة ذاتها التي أجلسُ فيها الآن، وأنا أقلّبُ خصوصياتك العائليّة!".
يتداخلُ الزّمن عليَّ للحظةٍ: "هل أنا الآن أغوصُ في خصوصيّاتها، وصور عائلتها ويوميّاتها؟! يا تُرى هل أنا مدينةٌ لها باعتذار؟!". أعودُ فأجيبُ نفسي: "ما بكِ؟ أنت الآن هنا ترافقينها في أكثر لحظاتها الخاصّة: إنّها الدّموع التي بدأت بالجريان، وأنتِ التي لا قلْب لكِ على رؤية الدّموع. ماذا ستفعلين؟! أرجوكِ لا تشاطريها البكاء! انهضي وربِّتِ على كتفيها. امسحي دموعها، دون مشاعر أخرى. لا بكاء! ختام.. لا بكاء!". نهضت السّيدةُ واستأذنت لبعض الوقت، حيث عادت وهي تحمل "الطورطة" الطّازجة التي تفوح منها رائحة القرفة والجوز. في يدها الأخرى ألبوم صور جلديّ، أخضر اللّون، ذو زنّار مُذهّب. فتحَت الألبوم، وروَت قصص الصّور. تجدّد البكاءُ فجأة عندما وصلنا إلى صورتها مع زوجها. قالت في بوْح نادر: "لا أشعرُ بوجوده! إنّه غائبٌ على الدّوام. يهربُ مع أصحابه كلّ ليلة، بينما أنام أنا وطفلاي وحيدين. أمضي يومي مع أختي وصديقتي". وتضيف: "لا أسمح لنفسي بأن أقرن الحياة به. أخرجُ سيارين (نُزَه) إلى بساتين الغوطة والرّبوة. أصنعُ سعادتي بنفسي".
ثم تختمُ جملتها بتنهيدةٍ مسموعة: "إلا أنّني أخشى القادم!". أخفيت دموعي، كما أظنّ اليوم، وأخبرتها: "إنّكِ أمٌّ طازجةٌ رقيقة، كقطعة الطورطة هذه". ارتفعتْ ابتسامتها. "لا تذبلي"، اختتمت مواساتي لها وأنا أطلبُ منها أن أحتفظ بصورةٍ لها تحتضنُ وليدها بين يديها، وهي تجلسُ في أحد أركان القصر على مقعد حجريّ.
"ختام! لماذا تبكين؟"، دخلت صديقتي الغرفة فجأة، ووجدتني أحمل ألبوم الصور الأخضر الكبير، مسحتُ دموعي وأخبرتها بماذا وجدت، وماذا يتوجب علينا أن نفعل، إنها حياة كاملة بين أيدينا، "لن أتركها هنا"، أخبرتها.
اتفقنا على أن نأخذ الصور وننسق مع المدير لإيجاد طريقة تخولنا وضعها في متحف الصورة. "متحف صورة؟!"، سألتني صديقتي مستهجنة. لسوء حظنا يدخل لحظتها، الوريث (أحد ورثة القصر) -حسب أقواله- سحب ألبوم الصور من يدي وأخبرني بأنه ليس من حقي أن أفتش في مكنوناته، صُعقت من كلماته وأخبرته: "من كل عقلك خايف على ألبومات الصور المهترية! وطبقات العفن والتراب هي شو؟ ليش ما خفت عليهم من الفرقة الرابعة أو العناصر المدججة بالسلاح اللي قعدت بالبيت وخربت اللي خربته؟". أجابني: "هدول من حقي وأنا وريث هي العيلة الوحيد وروحي خديهم بالقانون".
كنتُ الملومة حين تركته يراقبني منذ بداية دخولي إلى الغرفة، يبدو أنه لاحظ اهتمامي بالصور، وقدّر بأنها ممكن أن تدرّ عليه أرباحاً طائلة، فقررت إخباره: "ما رأيك أن نعاينها ونعرف قيمتها وإذا في أي فائدة هي إلك لحالك فقط". إلا أنّهُ كان متيقظ الذهن، فلقد احتكّ قبلنا بمئات المُرممين والآثارييّن، فهو يعلم ما بحوزته الآن. غيّرتُ لهجتي معه وشذبت صوتي وعاودت إخباره: "بأن هذه الصور ستروي حكايات القصر، وتعيد إحياء ذكراه... إلخ"، إلا أنني كنت كلما استرسلت بالحديث أكثر زاد احتضانه لها وشدها إلى صدره أكثر. نظرت إلى صديقتي فأومأت برأسها مستسلمة!
خرج ولم ينتظر أن نكمل الحديث، كان يتعقبنا بعينيه الصغيرتين الثاقبتين، حلّته السمراء الفاحمة أضفت عليه قساوة شديدة، يمشي مرافقا له ابنه الصغير، ويخبرنا عن مشاكل الورثة والصعوبات التي لم تلقَ حلولاً من أجل توزيع الميراث والنهوض بالمنزل. تحدث عن مبلغ 11 مليون دولار كانت قد خصصتها "يونسكو" لترميم هذا القصر، سُلّمت للجهات الرسمية، إلا أنه لم يشاهد من ينتشل بيت أجداده من مصيره المحتوم. أنهى حديثه بـ"كثيرون هم من جاؤوا إلى هنا بغرض الترميم، إلا أنهم كانوا يأتون مرة ولا يعودون بعدها!".
شعرنا بالخيبة الكبيرة بعد سماعنا لكلماته، ووددنا بألا نصدق ما تفوّه به، إلا أننا شعرنا بأنه صادق وقد سئم كل الذين يأتون بغاية إعادة الحياة إلى البناء، فبات من الصعب عليه تصديقنا.
عدنا لاستكشاف البناء، توزعنا المساحات، الإهمال والكارثة يتصدران المشهد، جميعنا كان في أقصى حالات اليأس والغضب، كيف يمكن لبناء مثل هذا البناء أن يترك مهملا إلى هذا الدرجة؟
دخلنا قاعة الاستقبال، التقطت أعيننا زاوية الجدار الشمالي الغربي، حيث تمركزت هناك درفات خشبية، اقتربت مع زميلتي وفتحنا أبوابها ليظهر لنا درج بعتبات ذات منسوب مرتفع، ينتهي بباب خشبي.
سرحت بعيدا وشعرت للحظة بأنني قد عبرته منذ قليل، حيث كنت قد وجدت صعوبة في صعوده مع تلك السيدة التي كانت تحمل القهوة! أخبرتني حينها: "بأنه درج سريّ خُصص للانتقال بين الطابقين". أصابتني حالة من القشعريرة، ماذا يحصل؟ لماذا أشعر بأني بتّ جزءا من هذا المكان! وما فاقم هذا الشعور وركّزه، أنني عندما التفت خلفي صدمتني صورتها وهي تتربع في إطار بيضوي، تحدق بي بعينيها الثاقبتين، يحيط بعنقها عقد لؤلؤي مزدوج، وتتدلى من أذنيها أقراط لؤلؤية تشع بريقاً عندما تتداخل مع خصلات شعرها الأسود الفاحم.
جاورت صورتها صورتا رجلين، كلاهما يرتدي بزة عثمانية تغطيها أوسمة كثيرة. الصورة الأولى لرجل كبير في السن ربما كان محمد باشا اليوسف والد عبد الرحمن، بحثت عنه فلم أجد له صورة. بينما الصورة الثانية، فكانت لعبد الرحمن اليوسف.
خرجت مسرعة، شعرت بنبضي يتسارع وبدأت ألهث بشدة. التقيت بالمجموعة في الإيوان. أكملنا رحلة البحث. شاركت زميلاتي المهندسات الإضافات على المخطط الهندسي، وأهم الملاحظات التي ترافق كل قطاع وزاوية، كنا نقيّم ونسجل في دفاترنا ملاحظات مهولة عن وضع البيت وما آل إليه.
خلصنا جميعا بأن البناء ليس فقط بحاجة إلى معاينة وتوثيق أضرار، بل هو بحاجة إلى ورشات إسعافية طارئة بدعم مؤسساتي هائل تتكاتف فيه جهود أكثر من جهة! وهذا ما كان يغرس في داخلنا وجعا عميقا، فـ"حارتنا ضيقة ونعرف بعض!".
المشاركون في أعمال التقييم والتوثيق من أكثر الناس كفاءة والتزاما، كانوا يعملون في ظروف كارثية وفي مساحات تتقلص فيها مقادير الحياة.
في ما سبق ذلك، أسس المهندس "ع. م" في مديرية تقانة المعلومات مع المهندس "ط. ج"، سيرفر مركزياً يحفظ أرشيفاً رقمياً هائلاً. ومنذ تلك اللحظة، بات للمبنى والموقع الأثري والقطع الأثرية هوية تحمل رقماً يحدد وجودها وعلامات مميزة خاصة بها، إلى جانب كل المعلومات التي رافقت الأثر منذ لحظة الاكتشاف الأولى. اكتمل الإنجاز لاحقاً، بتأسيس مشروع "الخارطة التفاعلية" التي حُولت فيها المواقع الأثرية السورية، إلى مجموعة نقاط ذات إحداثيات رقمية. ضغطة زر واحدة، تفتح بوابة دخول عامة يسافر من خلالها كل مهتم ليستكشف طبقات الموقع وأهم معالمه الأثرية، والأضرار التي لحقت به!
لم يستمر مشروع الخارطة التفاعلية، بسبب البيروقراطية المستشرية في أوردة المؤسسات السورية والتي قوامها الفرد! إذ يقترن الإنجاز بالشخص الذي أنتج منظومة خاصة وليس بالمؤسسة، وبذهابه يُترك المشروع للنسيان.
أسس "ع. م" شبكة مختلفة الاختصاصات جمعها في مكان واحد. وعلى الرغم من أن تلك الفترة كانت من أحلك الفترات التي عاشتها الآثار، إلا أنها كانت من أكثر الفترات ازدهارا، كمناخ عام للإنجاز والعمل.
بالنسبة لمركز الوثائق التاريخية الذي يحتل قسم الحرملك في بيت خالد العظم، وهو القسم الملاصق تماماً لبيت عبد الرحمن اليوسف، فموقعه من أشد الأماكن خطورة، ويعود ذلك إلى موقعه المكشوف على شارع السوق في حي العقيبة، وغير المجهز بشبكة حماية، والسبب الثاني والأهم فهو بنيته الخشبية الهشة.
للوثائق داخله أهمية خاصة، فهي الحافظة للسجلات غير الصادرة عن مؤسسات الدولة المركزية، مثل سجلات المحاكم الشرعية وسجلات الأوقاف، وغيرها من سجلات توثق المفاوضات والمخاطبات بين إدارات الدولة المختلفة وسجلات المحاكم التجارية والمذكرات الشخصية لسياسيين وشخصيات في الحركة الوطنية السورية... إلخ. ومن خلالها، يمكننا التعرف على واقع الحياة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وطبيعة القوانين والأنظمة، والأصول الإثنية والعرقية والطائفية التي كانت سائدة في تلك الفترات.
بعد عودتنا من بيت عبد الرحمن اليوسف، فكرت في أن أبحث في اليوم التالي في دار الوثائق عن الشخصيات التي تعرفت عليها البارحة. وخاصة تلك السيدة، إلا أن الذي حصل لُخص بالتصاقي في غرفتي حبيسة المنزل، لم أقوَ على العودة إلى مقر عملي في بيت خالد العظم المتاخم لمنزل السيدة التي بقيت فترة طويلة أراها في أحلامي. أوقفت عملية البحث داخلي، فلقد سيطر البيت والعائلة وصور السيدة على يومياتي! وهي لعنة الأماكن التي ما زالت ملازمة لي.
اليوم نرى وزيرة الثقافة وشخصيات معتبرة تزور مكان الواقعة، عناوين الصحف والبرامج التلفزيونية تتحدث عن استيقاظ رئيس مجلس الوزراء في الخامسة صباحاً لكي يشرف على الوضع هناك. لن أتفوه بحرف يمس أبطال هذه المسرحية، سأكتفي بوضع بضع صور لبيت عبد الرحمن اليوسف قبل حلول الكارثة الأخيرة، كونه كان عرضة لمجموعة كوارث، هذه الصور كنت قد أخذتها بكاميرا موبايلي كوثيقة للذاكرة.
الجدير ذكره هنا، بأن آخر حادثة انهيار شهدها البيت كانت في الشتاء الماضي عندما سقط أحد الجدران على مركز الوثائق التاريخية، وكادت الواقعة أن تؤدي إلى مجزرة إنسانية لولا تدخل.. لا أعلم من تدخل. في ذلك اليوم، جاءت إليّ تلك السيدة، عاودنا شرب قهوتنا معاً، أخبرتني بأن غرفتها قد تهاوت ولم يبقَ منها شيء. عندها وجدت إجابتي.
ست سنوات وأنا أجوب أزقة هذا الحيّ الخفيّ، المدقع البساطة، الساحر التفاصيل! صباح كل يوم كنت أعد نفسي بأنّ هذا الصباح هو آخر صباح لي في المديرية! إلا أنني حينما كنت أهرب حيث الباحات السماوية لبيت خالد العظم، وأتنشق رائحة الحجارة ودقائق الزخارف. أستكين لنفسي وأقول لها: ماذا تريدين أجمل من ذلك يا ختام؟
أعود في اليوم التالي وأجيب نفسي: "لا قدرة لك على مجابهتهم، انجي بنفسكِ".
الآن أعود إلى تلك اللحظة التي غادرنا فيها جميعنا بيت اليوسف، وقفت لحظتها أتأمل قوس بوابة الدخول، لمست حجارتها ورجوت الفوانيس المحفورة على سطحها أن تحرس ليالي هذا البيت وأرواح من يسكن فيه. اقتطع حديثنا صوت ماكينة الأحذية حيث الورشة علي يسار البوابة، وتسرب رائحة العفن والقهر من الركن الأيمن حيث كانت تعيش عائلة "الوريث"!
يبدو أن هناك شيئاً ما أغضب تلك الفوانيس.
ليلة الحادثة توقعت زيارتها، إلا أنها لم تعد لزيارتي بعد واقعة تهاوي غرفتها التي تحب، لم أفعل شيئا يذكر لها! كيف لها أن تزورني وأنا التي تركتها وحيدة وطفلها!
ليس هذا فحسب تركت كل ما أحب من أماكن وأحباء للمجزرة، كنت أضعف مما خيّل لي.
الهامش
أود أن أذكّر بمشروع شارع الملك فيصل، المسؤولة عنه محافظة دمشق بالتعاون مع رؤوس أموال خليجية في تلك الفترة 2007. هذا المخطط يهدف إلى إزالة "سوق ساروجة" الذي يعتبر امتداداً للمدينة القديمة خارج السور، واستبداله بمنطقة تجارية متعددة الطوابق، ولأحياء أخرى عديدة خارج السور.
ويقتضي تنفيذ مشروع شارع الملك فيصل إخلاء وهدم منطقة سوق الهال القديم وحتى جامع المعلق قبل سوق النحاسين وجزء من الطريق الذي يستمر من منطقة جامع المعلق حتى ساحة باب توما.
يذكر في هذا الصدد، أن أهالي المنطقة تحركوا بجدية اتجاه الموضوع وراسلوا المسؤولين وجهات رسمية، وأبدوا استعداداً كبيراً لتحمل التكاليف المادية اللازمة لترميم وتجميل المنطقة، إلا أن المخطط كان أخبث من مشروع ترميمي تجميلي، ولهذا السبب لم يوقفهم في تلك الآونة، إلا تدخل "يونسكو" حيث جرى الاتفاق على زيارة وفد من المنظمة ومعاينة الوضع واقتراح حلول بديلة. غطت أحداث ذلك المشروع ولاحقته بضمير وثبات المحامية رزان زيتونة، السلامة تكتب لها وترافقها أينما كانت.
(الصور التقطتها الكاتبة خلال زيارتها للمكان)