استمع إلى الملخص
- الفيلم يثير أسئلة حول قيمة التاريخ والآثار، ويستخدم تقنيات سينمائية متنوعة مثل 35 ملم وسوبر 16 و16 ملم، بالإضافة إلى حيل قديمة، مما يعكس تحية لتاريخ السينما.
- رورفاكر تستكشف ثيمات الماضي والهوية، وتخطط لمشاريع مستقبلية تتناول فقدان الإنسانية. الفيلم يعكس العنصرية في إيطاليا ويظهر كيف يمكن للإنسان أن يجد ما يبحث عنه إذا ضل طريقه.
"الوهم"، رابع فيلم للإيطالية آليتشي رورفاكر، ميلانكوليّ وسخيّ ومفتوح، يتنفّس وينقل الحيوية والحبّ إلى العالم والناس العائشين فيه. فيلم سحري عن كيفية اختفاء السحر ببطء من العالم. ثيمة متكرّرة في أفلامٍ سابقة لها، كـ"العجائب" (2014) و"لازارو السعيد" (2018)، تدمج الواقعية الإيطالية الجديدة بخرافات الواقعية السحرية.
في عملها، يتداخل الماضي الأسطوري الإيطالي دائماً بالقضايا الكبرى في عصرنا: الرأسمالية المتوحشة، استغلال الطبقة العاملة، اختفاء التقاليد والقيم والعادات القديمة. يبقى توقٌ حزين إلى شعورٍ وزمنٍ زائلَين، يصبحان أحياناً ملموسَين تقريباً، بفضل أفلامها.
هذا يدور حوله "الوهم" أيضاً: ريف توسكانا، أوائل ثمانينيات القرن الـ20. تصوير كيفية تنقيب لصوص القبور الإيطاليين (تومبارولي) عن آثار إتروسكانية ثمينة، لبيعها في السوق السوداء. ينضم أرتور (جوش أوكونور)، المنعزل والغامض، إلى العصابة، ويتّضح امتلاكه موهبة تعقُّب كنوز العصور الماضية. تسرق العصابة من دون أي اعتبار للقيمة التاريخية للكنوز المدفونة. فهل وُجدت الآثار أصلاً لعالم الأحياء، أم لتبقى مدفونة لا يراها أحد؟
يثير "الوهم" أسئلة كهذه بطريقة ذكية وحسّاسة، تبني بها رورفاكر ومصوّرتها السينمائية المعتادة هيلين لوفار رحلة رائعة أخرى لا يمكن التنبؤ بها، يتجاور فيها الحقيقي والمحلوم به، الأرضي والروحي، القديم والمعاصر، التقليدي والحداثي. في لقطات قليلة، هناك سينما أكبر من أفلام كاملة. في إحدى أكثر اللحظات إثارة للإعجاب، يُفتَح قبر، ويتسلّل الأكسجين إليه لأول مرة منذ فترة طويلة. يعاين المتفرّج فوراً تأثير رؤية تلك الكنوز القديمة ضوء النهار لأول مرة، فتبدأ في التأكسد، وتفقد بريقها نتيجة ذلك: كما لو أنها تعرّضت للسرقة، تفقد هالتها سريعاً. لحظة مأسوية بقدر جمالها. استعارة بصرية رائعة لكيفية انعكاس طبقات الفيلم على أوقات متبدّلة وبيئات متغيّرة.
عالم لصوص المقابر الأثرية تحرّكه وتدفعه أساطير وأوهام. مادة تبدو مصمَّمة لخيال السينما وتخيّلات الطفولة، والأخيرة تحديداً نقطة بداية الحوار مع أليتشي رورفاكر عن مواضيع "الوهم"، وأشكاله وأسلوبه، وصولاً إلى مصادر إلهامها السينمائي، التي تلخصّها بطريقتها البسيطة المحبّبة في "الثلاثة إيني: روسيليني، فيلّيني، بازوليني".
في حوار "العربي الجديد" معها، تحدثت رورفاكر أيضاً عن عملها، وإيمانها بالتصوّف، وحلمها بأنْ تصبح مدرّسة لغة إيطالية.
(*) مذهلٌ كيف تعمل أفلامك كخزّان ذكريات. حتى في "الوهم"، يمكنك دمج الماضي بالحاضر بشكلٍ جميل. يتطوّر السرد في طبقات عدّة، كما لو كانت طبقات جيولوجية تتلامس في النهاية. كيف تنظرين إلى تلك الطبقات؟
الفيلم يتناول أشياء عدّة في وقتٍ واحد. في أيامنا هذه، تبدو الأفلام أحياناً كثيرة كأنّها تدور حول شيء واحد، قصة واحدة، موضوع واحد، ثيمة واحدة. لكنْ، هذه ليست الطريقة التي تسير بها الحياة. فالحياة تتكشَّف في اتجاهات متعدّدة في آن واحد. هذا بالضبط ما يحدث، وما يجعل الإنسانية متعدّدة الأوجه.
أريد أنْ تعكس السينما ذلك. أرى "الوهم" فيلماً عن القَدَر. ربما يكون مصير أرتور مأسوياً، لكنّ هذا لا يعني عدم وجود لحظات ممتعة من الإلهاء أو الحنان أو الحبّ أو الخفة.
هناك أيضاً عنصر سياسي في فكرة الذاكرة. فصُوَر لصوص القبور وهم ينتزعون آثار الماضي ويبيعونها تعكس كيف نتخلّص من ماضينا، كما لو كان لدينا الحقّ في بيعه. هذا يثير كلّ أنواع الأسئلة: ماذا نفعل بماضينا؟ هل ننساه؟ هل نكتنزه؟ هل نغيّره إذا تذكّرناه؟
(*) هناك أيضاً تشابه مع السينما في هذا، لأنّ "الوهم"، بكل تنسيقات صُوَره وشاشته، يمثّل أيضاً شكلاً من أشكال علم الآثار السينمائي.
يدور الفيلم حول علم الآثار، لذلك قررتُ مع هيلين لوفار اللعب مع آثار السينما. يستكشف الفيلم مادية الفيلم نفسه، ويستخدم في الواقع شرائط فيلمية مختلفة. لديك 35 ملم، المستخدمة لصنع الكلاسيكيات السينمائية الباكرة، ثم السوبر 16، وسيط "الموجة الفرنسية الجديد"، بإعطائه مرونة كبيرة لأشكال السرد المباشر. هناك أيضاً وسيط الهواة، مقاس 16 ملم. أضفنا إلى هذا المزيج كلّ الحيل القديمة، كاللعب باستخدام عدد الإطارات في الثانية، وتحريك الصورة من خلال تقنيات إيقاف الحركة. إنّها تحيّتنا لتاريخ السينما وهندستها.
(*) بعد فيلمَي "العجائب" و"لازارو السعيد"، يُكمل "الوهم" ما يبدو أنّه ثلاثية. ما الذي ألهمك لإنجاز هذه الثلاثية؟
رغم أنّ البعض يراها ثلاثية، لكنّها ليست كذلك حقاً. في الأفلام الثلاثة، هناك السؤال نفسه حول الماضي والهوية. تتحدّث عن جوانب الماضي التي نقمعها. في "العجائب"، تشارك عائلة في مسابقة لمعرفة من العائلة الأكثر نموذجية. في "لازارو السعيد"، أتحدث عن التناقض بين عالم القرون الوسطى تقريباً والعالم المعاصر. في "الوهم"، هناك أشياء أثرية يمكن النظر إليها مباشرة. يمكن للثوران البركاني أنْ يقذف ثلاثة عناصر في الهواء: الغاز والصخور والحمم البركانية.
لذا، يمكن القول إنّ هذه الأفلام الثلاثة عناصر للانفجار البركاني نفسه. لكنّها ثلاثة أفلام روائية منفصلة.
(*) هل هذا يعني أنّه يمكنك الاستمرار في الاشتغال على هذه الثيمة، وتطوير سلسلة قصص تتجاوز ما قدّمته في الأفلام الثلاثة؟
أخطّطُ بالفعل لمشروعي المقبل. عندما تصنع فيلماً، يستغرق الأمر وقتاً وجهداً كثيرين، بحيث لا تكون الأسئلة سطحية أبداً. إنها أسئلة تطرحها في أعماق نفسك. في هذه اللحظة، أحاول صنع شيء أقرب إلى الخيال العلمي، لكنْ دائماً مع هذا السؤال حول الإنسان، وفقدان الإنسانية، وكيفية العثور عليها مرة أخرى. بالتأكيد، هذه المواضيع تظلّ مهمّة بالنسبة إلي.
(*) أرتور، الشخصية الرئيسية، شاب بريطاني. هل كانت جنسيته واضحة منذ البداية؟
نعم. هناك عنصرية كثيرة في إيطاليا حالياً، لكنّنا نكافح كي نكون منفتحين على الأجانب. لم أكن متأكّدة من شخصية إيطاليا، التي تؤدّيها البرازيلية كارول دوارتي. لم أكن أعرف من أين ستأتي الشخصية. بالنسبة إلي، جاءت من العدم. لكنْ، جيدٌ أنّ تملك شخصاً يحمل اسماً كهذا، إيطاليا، وهي ليست إيطالية حتّى. بالنسبة إلى أرتور، مهمّ أنْ تكون شخصيته أجنبية. أحياناً، نحتاج إلى وجهة نظر أجنبية لمعرفة إلى ثرائنا الثقافي. بدأتْ الأبحاث والاكتشافات الأثرية مع الأجانب.
عاش الإيطاليون دائماً بجوار الآثار، لكنّهم رأوا فيها شيئاً كان موجوداً دائماً. الزوَّار الأجانب هم مَن أعطوا معنى للماضي. جاؤوا إلى إيطاليا في القرنين 18 و19، وأضفوا قيمة على هذه الأشياء. لذا، أردتُ شهادة شابّ إنكليزي قَدِم إلى إيطاليا، وأحبّ هذه المواقع الأثرية.
(*) هل كان جوش أوكونور (أرتور) يتحدّث الإيطالية بالفعل؟
لا. تعلّمها. في كلّ فيلم من أفلامي، أعلّم شخصاً ما اللغة الإيطالية. في "العجائب"، مؤدّي دور الأبّ لم يتحدّثها. في "لازارو السعيد"، ممثلون ألمان يؤدّون أدوار مزارعين، وعليهم تعلّم اللغة الإيطالية القديمة. هنا، الممثل الرئيسي.
حلمي السرّي أنْ أصبح معلّمة للّغة الإيطالية.
(*) أرتور تطارده ذكرى حبّه الماضي. أمستحيل أنْ يبقى الماضي مجرّد ماضٍ؟
قرأتُ كتباً رومانسية عدّة يتعذّب فيها الأبطال بألمٍ لا يمكن التغلّب عليه. أردتُ صنع بطل رومانسي يرتبط بشيء لا يستطيع العثور عليه، وذلك جزئياً لتبرير شغفه بالمهمة.
ما أثار اهتمامي، عندما التقيت عصابات لصوص القبور "تومبارولي" Tombaroli، أنّهم رجال مبتذلون ومادّيون للغاية، ومهووسون بالمال، لكنّهم يقبلون المتجاوز والميتافيزيقي بطريقة بسيطة جداً. في كلّ عصابة، هناك شخص يتمتّع بقدرات غامضة معيّنة. لديهم علاقة يومية مع التصوّف، ما أثار إعجابي. لو أنّ فيلمي صُنع على النموذج الأميركي، لركّزت على سرّ هذه القدرة. مع "تومبارولي"، الأمر ليس مشكلة حتى. هذا موجود فقط، وليس مهمّاً معرفة السبب. لكنّي رغبتُ في إعطاء قوى أرتور جوهراً أعمق، واعتقدتُ أنّ هذا يجب أنْ يكون الحبّ.
(*) لذلك، يرى "تومبارولي" أنّ الخارق طبيعي جداً. هذه الحال معك بعض الشيء، أليس كذلك؟
أعتقد أننا فقدنا هذا الارتباط بالاستثنائي والخارق، لكنّ احتمال وجوده مهمّ جداً. ينبغي التعامل مع الاستثنائي والعادي بالطريقة نفسها، لكنّنا فقدنا تلك القدرة. أحبّ في أفلامي إظهار أنّ المرئي وغير المرئي الشيء نفسه بطريقة ما. أحدهما لا يوجد من دون الآخر. نعيش في زمن نحاول فيه تصنيف وفصل كلّ شيء، لكنّي أحاول صنع أفلام تمزج الرموز مع مشاعر مختلفة، لأنّ الإنسان مُعقّد، والحياة نفسها معقّدة.
(*) هل يُمكنك العثور على ما تبحثين عنّه فقط إذا ضللتِ طريقك؟
مؤكّد أنّه عليك أنْ تفقد نفسك لتتمكّن من العثور على شيءٍ ما. عليك أنْ تستمتع بالبحث أكثر من الرغبة في تحقيق شيءٍ ما. الفانتازيا شيءٌ لا يُمكنك فهمه أبداً، لكنّك تتوق إليه دائماً.