في احتفالات عدّة سابقة بالذكرى السنوية لـ"حرب أكتوبر" (6 ـ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1973)، أقلّه في أعوامٍ قليلة فائتة، تُستعاد شخصية رجل أعمال مصري، وتُطرح تساؤلات عن دوره في تلك الحرب أساساً، من دون إجاباتٍ حاسمة، أو وافية على الأقلّ. أشرف مروان (1944 ـ 2007) يظهر في واجهة المشهد الاحتفاليّ، مرات عدّة، والسؤال الأبرز معلّق من دون تأكيدٍ أو نفي: أهو عميل مزدوج بين مصر وإسرائيل، أمْ لا؟
الشخصية معروفة. رجل أعمال، ومُفاوض "بارع" في مسائل التسلّح. حكاياته مروية مراراً. إنّه زوج منى، الابنة الثانية لجمال عبد الناصر (1918 ـ 1970)، والأخير غير راضٍ عنه، لكنّ إصرار الابنة التي يُحبّها كفيلٌ بخضوعٍ أمام رغبتها في الشاب الوسيم والطموح. رغم هذا، تبقى العلاقة بين الرجلين غير سليمة. يبحث مروان عن وسيلةٍ تُقنع عمّه به. يتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن، وتبدأ رحلته مع جهاز استخبارات العدو (موساد). يرحل عبد الناصر (28 سبتمبر/أيلول)، ويعثر مروان على مكانٍ له في القيادة المصرية الجديدة، إلى جانب أنور السادات (1918 ـ 1981).
اختصار سيرة رجل كأشرف مروان غير صعبةٍ، فالعامل في جهاز أمني استخباراتي يمتلك أسراراً يندر البوح بها، وإنْ يُذكر بعضها، في حياته أو بعد رحيله، فلأسبابٍ تبدأ بالذاتي (تبرير؟ كشفٌ لوقائع بهدف حماية الذات من كذب أو تزوير؟ إيراد أعمالٍ يتباهى بها العميل؟.. إلخ)، وتمتدّ على العام، لكنْ وفقاً لما يسمح به العام (الأجهزة نفسها أولاً) من حرية قول وكشف. في حالة مروان، الأمر نفسه: مثلٌ على ذلك يتمثّل بصمتٍ مصري، منذ زمن السادات، إزاء ذاك السؤال المعلّق: أيكون الرجل عميلاً مزدوجاً؟ هناك لاحقٌ على السؤال هذا: أيكون السادات نفسه عارفاً بأنّ مروان عميلٌ إسرائيليّ فيُجنّده، أمْ أنّ مروان "أذكى" من الوقوع في فخّ كهذا، وأنّ السادات جاهلٌ بالأمر؟
اللافت للانتباه أنّ بعض أبرز فصول سيرة أشرف مروان، الحياتية والمهنية، مكشوفٌ بفضل اشتغال إسرائيلي متنوّع الأشكال، يقوم به أفرادٌ إسرائيليون قلائل، متخصّصون بشؤون الأمن والاستخبارات، والصراع العربي الإسرائيلي، أكاديمياً وتأريخياً وصحافياً. يسرد هؤلاء بعض تلك الوقائع، استناداً إلى وثائق يُسمَح بتداولها، أو يحصلون عليها، وإلى "استجواب" مطّلعين ومؤثّرين وقياديين في أجهزة إسرائيلية، وقيادات سياسية وعسكرية (وغيرها)، يقولون ما يعتبرونه قابلاً للكشف.
سينمائياً، هناك عملان اثنان يُركن إليهما بالنسبة إلى الكمّ الكبير من المعطيات المُوثّقة التي يستند إليها صانعوهما، مع فرقٍ واضح في المعالجة الفنية والدرامية والجمالية: "الملاك" (2018)، روائيّ لأريئيل فِرومن (مخرج وسيناريست أميركي ذو أصل إسرائيلي، 1973)، و"الجاسوس الذي سقط على الأرض" (2019)، وثائقي لتوم ميدْمور (مخرج وكاتب ومنتج أسترالي، يُقيم في المملكة المتحدة، 1970). عنوان الروائي لقبٌ ممنوح لأشرف مروان في "موساد"، والفيلم يستند إلى كتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل" (2016) لأوري بار ـ جوزيف (1949، أستاذ في قسم العلاقات الدولية في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، متخصّص بالأمن الوطني ودراسات الاستخبارات والصراع العربي الإسرائيلي).
الوثائقي موصوف بالتالي: "استكشاف حياة الدكتور أشرف مروان وموته الغامض"، وإنجازه مرتكزٌ أساساً على كتاب بالعنوان نفسه (2016)، لأهارون بريغمان (1958، عالِم سياسي وصحافي وكاتب، متخصّص بالصراع العربي الإسرائيلي)، وله عنوان مُكمِّل: "علاقتي مع العميل السرّي الذي هزّ الشرق الأوسط".
"الملاك" غير سوي بصرياً. سرد الحكاية مرتبك، يقترب من بساطةٍ عادية، يحاول أداء ممثلين وممثلات تحويلها إلى مرايا تكشف نفوساً وعلاقاتٍ ووقائع، من دون جدوى. الأداء نفسه غير مُقنع، غالباً، خاصة شخصيتي جمال عبد الناصر (وليد زعيتر، أميركي له جذور فلسطينية، مولود في ساكْرمنتو عام 1971) وأنور السادات (ساسون غاباي، إسرائيلي من عائلةٍ متحدّرة من العراق، مولود في بغداد عام 1947). مؤدّي أشرف مروان هولندي ذو أصل تونسي، يُدعى مروان كِنْزاري (مواليد لاهاي، 1983). أما منى، فتؤدّيها الفلسطينية ميساء عبد الهادي (الناصرة، 1985).
أهمية المادة التوثيقية، والحكاية برمّتها، غير محصّنة باشتغال سينمائي متماسك. السيناريو (الأميركي ديفيد آراتا، 1954) مُكتفٍ بما يُشبه سرداً إنشائياً غير حاضرٍ في الكتاب، المشبع بمعطيات ومعلومات ووقائع، غير مبتعدة عن بناء روائي، لكنّ الأهمّ فيه كامنٌ بأولوية تقديم كلّ ما لدى كاتبه من مادة بلغة سلسة (في الكتاب، فقرات قليلة تُحلِّل، نفسياً واجتماعياً وسلوكياً، سبب/أسباب اتّخاذ البعض قرار العمالة لعدو).
هذا غير وارد في الوثائقي. شخصيات عدّة يلتقيها ميدْمور، لها ارتباطات مختلفة مع عارفين ومتابعين وحافظي أسرار ومالكي وثائق. الجانب البصري فيه، خارج التوثيق، قليلٌ، لكنّه يُلمّح ويوحي بتفاصيل غير مؤكّدة، بصنع امتداداتٍ فنية ودرامية لسردٍ مُحمّل بغموضِ أشياء وخداعِ شخصيات، وبإيحاءات تُفهَم بمعانٍ عدّة، ربما تكون متناقضة أحياناً. الثقل التوثيقي، بمعناه الإيجابي (لما يحتويه من حكاياتٍ كثيرة)، مُخفَّفٌ قليلاً بجوانب بصرية، والكمّ الكبير من الكلام مُتعِبٌ، لكنّه كاشفٌ وفاضحٌ، غالباً.
يحاول مروان كنْزاري منح شخصية أشرف مروان أبعادها كلّها، بتساوٍ منطقي. لكنْ، في أدائه شيءٌ نافرٌ، فـ"الملاك"، أقلّه كما يُظهره ميدْمور، مُصابٌ باضطرابات، لا علاقة لها بالعمل الاستخباراتي فقط. هوسه بانتزاع اعترافٍ وقبول واحترام من عبد الناصر تحديداً، والهوس يكاد يُصبح مرضيّاً، غير واضح تماماً في أداء كنْزاري؛ بينما يعثر في وثائقي ميدْمور على حيّز أكبر، وإنْ في خلفية الصُور والمشاهد، وبين مفردات الكلام الذي يُقال.
اضطرابه وقلقه، في الأعوام القليلة السابقة لموته، مكشوفان في الوثائقيّ بتقنية سينمائية متواضعة، لكنّها مُقنعة وواضحة. تصوير موته، استناداً إلى أقوال شهودٍ في المبنى المقابل لشقّته في لندن، يوحي بتشابهٍ مع موت سعاد حسني (21 يونيو/حزيران 2001، هي المولودة في 26 يناير/كانون الثاني 1943)، في لندن أيضاً.
ألا يُقال إنّ شُبهة "قتلها" رمياً من شرفة منزلها (الطابق الـ6) أقوى (وإنْ من دون تأكيدات حاسمة) من "انتحارها"؟ في وثائقيّ ميدْمور، يقول شهودٌ (بعضهم ينتظر مروان في مكتبٍ يُطلّ على شقّته) إنّ شخصين على الأقلّ يظهران وراء أشرف مروان، ولو بملامح غير واضحة لبُعد المسافة، عند سقوط "الملاك" من الطابق الـ5.
يُمكن الاسترسال في قراءة نقدية للعملين، وفي كيفية سرد كلّ واحد منهما فصولاً من سيرة "ملاك" أنقذ إسرائيل، و"هزّ" الشرق الأوسط. لكنّ سؤالاً يُلحّ: ما سبب غياب أشرف مروان من النتاج العربي، سينمائياً وتلفزيونياً؟ الإجابة الأسهل كامنةٌ في أنّه لم تُكشَف، إلى الآن، الوثائق الاستخباراتية المصرية، المتعلّقة بهذه الشخصية. أيكون هناك سببٌ آخر، يُكمل تلك الإجابة، ويتمثّل بانكفاء كلّ إنتاج عن مسألة/شخصية كهذه، تمنع القيادات المصرية المتعاقبة البوحَ بأسرارها؟