استمع إلى الملخص
- تطورت السينما السورية لتشمل جوانب جمالية، خاصة في الأفلام الوثائقية، مما أدى إلى تنوع في التقييم النقدي. كما أثرت في سينمائيين عالميين لتوثيق معاناة السوريين في المهجر، مضيفة بعداً إنسانياً جديداً.
- تناولت السينما السورية في المهجر قضايا الهوية والاندماج، مع أفلام مثل "حانة أولد أوك" و"التيه"، مما أسس لاتجاه سينمائي خاص يعكس معاناة السوريين وتأقلمهم مع بيئات جديدة.
يتوصّل المعني بمتابعة مسار السينما السورية ـ ونتاجاتها المهمومة والمهتمّة بالحراك الشعبي السلمي منذ انطلاقته عام 2011، وما رافقه من تطوّرات دراماتيكية ـ إلى استنتاجات أولية، تظلّ بحاجة إلى مراجعة مستمرة، لتشعّب أساليب تناولها، ولاختلاف رؤى ومستويات المتقدّمين لتجسيدها سينمائياً، من عربٍ وأجانب، إضافة إلى السوريين أنفسهم، خاصة معارضي النظام، من خرج منهم أو من بقي في الوطن.
سرعة التفاعل والحرص على توثيق الحراك، وكلّ ما له صلة به، بأقلّ الإمكانات الإنتاجية والتقنية، أكثر ما يلفت انتباه المتابعين إلى نتاجات السينما السورية في الـ13 عاماً الأخيرة. ربما يُسجَّل للسينمائيين السوريين أنّهم من أكثر المُشتغلين العرب في هذا الحقل حيويةً، وأغزرهم إنتاجاً لأعمال اقترحت توثيق حراك شعبهم، وقراءة مآلاته السياسية والمجتمعية. وكانوا في مركز مآلات كثيرة منها، مانحين للشخصيّ مساحة كبيرة لم تألفها السينما العربية من قبل، باستثناء اللبنانية، التي اهتمّت كثيراً بمعاينة الحرب الأهلية ورصد آثارها على السينمائي والبلد في آن واحد.
لم يرتضِ السينمائيون البقاء في حدود التوثيق الآنيّ البسيط، رغم أهميته أول الأمر، بل راحوا لاحقاً يبحثون ويطوّرون أدواتهم التعبيرية، ويعتنون بالجوانب الجمالية في أفلامهم، خاصة في الفيلم الوثائقي، الذي يشغل الحيّز الأكبر من المشهد السينمائي الخاص بالحراك الشعبي. هنا، لا بُدّ من تثبيت حقيقة أنّ الوثائقي معبرٌ لأنواع فيلمية أخرى، كالروائي القصير والطويل، والتحريك أيضاً، وإنْ بدرجة أقلّ. يُرجّح أنّ المتابعين لهذا النتاج يتقاربون في قراءاتهم واستنتاجاتهم العامّة لأفلام تلك الحقبة ومستوياتها، لأنّها أفرزت بنفسها درجات تفاوت في جودة اشتغالاتها الجمالية إلى حدّ كبير. هذا لا يلغي، بطبيعة الحال، تفاوتاً نسبياً حاصلاً في قراءة النقّاد لها وتقييمهم إياها.
من أفضال سينما الحراك الشعبي أنّها أصابت بعدواها آخرين من خارجها، فانضمّ إليها أجانب وعرب، تحرّكهم أخبارٌ يسمعونها يومياً عن فظاعات ترتكبها سلطة البعث بحقّ شعب طالب بحريته. الحرب الأهلية وبطش السلطة يدفعان ملايين السوريين إلى الهروب نحو جهات الأرض الأربع. رحلاتهم المحفوفة بالمخاطر، واستقرار الناجين منهم في بقاع لم يتصوّروا يوماً الوصول إليها، هذه الرحلات وذاك الاستقرار ينقلها سينمائيون سوريون كانوا بينهم بحرارة وانفعال يؤجّلان الاشتغال الجمالي مؤقّتاً. وجودهم الجديد يطرح عليهم بالضرورة أسئلة وجودية جديدة، الهوية والآخر الأبرز بينها، وكانت في تاريخ الهجرات البشرية موضع بحث المبدعين. ربما ذهاب السينما إلى هذه الوجهة يُعدّ المتغيّر الأبرز في سينما الحراك. لا يهمّ إنْ جاءت أفلامها الجيدة من مبدعين آخرين أجانب متعاطفين مع السوريين، وصنّاع سينماهم الخاصة، ففي النهاية سيتداخل منجزهم مع المشهد السينمائي المُتشكّل حديثاً، ولاحقاً سيكون جزءاً من نسيج سينماهم المختلفة عمّا قبلها، وإنْ لم تخلع عباءات مرجعياتها السورية الأولى. سيكون للسوريين فيها دورٌ مهم على مستوى الموضوع والمشاركة، ليشير إلى حضور لهم في سينما عالمية، ينجزها سينمائيون اهتمّوا بهم وبقضيتهم.
ليس أمراً عادياً أنْ يكون المخرج البريطاني كِن لوتش من بين هؤلاء. يصنع نصاً سينمائياً باهراً، بطلته شابّة سورية مهاجرة. في "حانة أولد أوك" (2023)، يُطرح سؤال الآخر، بمحمولاته الفلسفية والاجتماعية، في مكان بحري منعزل، أهله يعانون بطالة قاسية وتمزّقات نفسية شديدة، يجد السوري نفسه فيه، وعليه لا أنْ يكون جزءاً منه فحسب، بل أنْ يكون من الفاعلين في تغييره. "الآخر"، هنا، عنوان رئيس يُقارب سؤال "السوري" في مهجره الإجباري، الذي يظهر جلياً في "التيه" (2021)، إذ يشتغل صانعه لوقا فيرنييه على كشف الدواخل المضطربة للسوري عمر (أمير المصري)، الواصل إلى جزيرة اسكتلندية نائية، لا رغبة له في عزف الموسيقى على آلة العود، التي يُحبّها، في مساحتها المهجورة، فكل ما يشغله صلته المنقطعة بأهله كبقية الغرباء، هواجسهم وقلقهم يشبهان ما عنده. في "التيه"، الإنساني مشترك يجمع كلّ الذوات المتفاعلة في المكان، ويُعطي للآخر معنى حقيقياً، ويصحّح سوء الفهم الحاصل دائماً بين طرفين، أحدهما يخاف من غموض الآخر.
الفيلمان المهمّان يقدمان مثالاً على تشابك الهمّ الإنساني بالسينمائي، وعلى قدرة السينمائي الآخر على قول مهم، ربما تعجز السينما المهاجرة عن توصيله بالاشتغال الجمالي البارع نفسه. إليهما، ينضم، بمستوى مقارب، "إنسيرياتيد"، أو كما عنوانه العربي "في سورية" (2017) للبلجيكي فيليب فان لو، وقريباً منه التركي المؤلم وعميق المعنى "رشة قرنفل" (2022)، الذي قرأ صانعه بكير بلبل فيه معنى أنْ يكون المرء مهاجراً سورياً في بلد مجاور، ومع هذا يصعب عليه نقل جثمان من يحبّ ليُدفن في أرضه التي ولد فيها.
الآخر من وجهة نظر أصحاب الأرض يختلف بالضرورة عن الآخر من منظور المهاجر السوري نفسه. هذا المنظور النقدي موجود في وثائقيات سورية، تميّزت بجودة اشتغالاتها الجمالية، واختلفت عن أعمال كثيرة يغلب عليها هاجس التسجيل الآني، بأدوات سينمائية بسيطة. مُنجز زياد كلثوم، "طعم الإسمنت" (2017)، يتقدّم خطوات باتّجاه سينما تستوفي شروط صنعتها، وفي متنها تكمن رؤية عميقة لعلاقة السوري الهارب من الموت إلى جغرافيات عربية، يُفترض بها أنْ تُبعد عنه الإحساس بالعزل والتهميش. ما يحدث للسوري الآتي إلى لبنان غير بعيد عمّا كان يحدث معه في بلده. هناك، تحت أنقاض بيته المهدوم بفعل القصف، يشعر السوري بطعم الإسمنت المتسرّب إلى فمه، ممزوجاً بالمرارة والقهر. وفي لبنان، يتذوّق عامل البناء السوري الطعم نفسه، مصحوباً بإحساسٍ عال بالعزل والنبذ.
إذا كان سؤال الآخر عند كلثوم مؤطّراً بجغرافية عربية قريبة، فإنّه عند ابن بلده ياسر قصاب يمتدّ بعيداً، ويلازمه في رحلته، ويظهر جليّاً في ثلاثيّته. في آخرها، "مطاردة الضوء المبهر" (2023)، يُعيد الربط بين الذاتي والعام السوري، وبينهما الآخر حاضرٌ لا يُفارق منجزه الوثائقي.
يضفي عليه مسحة حزينة، لأنّه لا ينفكّ يذكره بغربته وصعوبة تأقلمه مع المكان الغريب. لا يعاديه، بل يتأمّل وجوده الذاتي من خلاله. هذا يترك بصمته على بنيته السردية المعنية بالعمق الداخلي، ومحمولات الماضي المؤلم تذكّره، وهذا مقرون بضياع المكان الأول، وصعوبة التكيّف مع المكان الجديد.
يصعب على المتتبّع سينما الحراك الشعبي، إذا صحّت تسميتها هكذا نظرياً، نكران حقيقة أنّ مرحلة جديدة من تاريخ السينما السورية تكتبها أفلامها، بكلّ مستوياتها وتباين متانة اشتغالاتها الجمالية. لا يُمكنه تجاهل أفضال الحراك عليها، الذي جعل منها اتّجاهاً سينمائياً خاصاً، تأثيراته على المشهد السينمائي السوري بائنة من الآن. فما بعد الحراك سينمائياً ليس كما قبله