لم يكن إلياس الرحباني الشقيق الأصغر لعاصي ومنصور الرحباني، مجرد هاو أو ناقل للأجواء الموسيقية التي حفل بها منزل العائلة في أنطلياس شمال شرقي بيروت.
ورغم تأثره الشديد بمسيرة عاصي ومنصور، آثر الرحباني الصغير أن يرسم لنفسه طريقًا مستقلاً في عالم الفن والموسيقى والألحان، وحتى الإعلانات. ثمة ما يميز إلياس عن الخريطة الرحبانية التي فتحت الطريق لمعظم الفنانين اللبنانيين منتصف القرن الماضي، وتحولت مع الوقت إلى قاعدة أساسية للفنون في لبنان، في الغناء والمسرح والسينما، وهو ما حمل إلياس إلى بلوغ مرحلة متقدمة في دراسته الموسيقية، التي أشرف عليها شقيقاه عاصي ومنصور، فتحول إلى مستشار فني لأعمال "الأخوين رحباني"، وكان لا يزال في سن مبكرة جداً. لم يقرن إلياس الرحباني تجربته الموسيقية بأعمال شقيقيه، ولم يكن بالإمكان أن يتحول الثنائي الرحباني إلى "ثلاثي"، نظراً إلى فارق الرؤية والخبرة بين الأشقاء الثلاثة. وهذا ربما ما جعل إلياس "مستقلاً" عن المدرسة التقليدية التي كبرت مع "الأخوين".
درس إلياس الرحباني على يدّ أساتذة أجانب، لكن إصابة بسيطة في يده اليمنى شكلت تحولاً في مساره الفني، وجعلته يسعى جاهداً ولو بيد واحدة. ويروي الرحباني أن ذلك كان بمثابة تحد له في سن مبكرة. لم تكن تحديات إلياس الرحباني الفنية إلا سلسلة في التغلب على المحيط العائلي، كنوع من التجديد في الوتر الموسيقي، ولو أنه يسلم أن شقيقيه وحّدا من خلال أعمالهما وأغنياتهما "اللهجة اللبنانية" فتحولت إلى لهجة بيضاء واحدة، وهو ما استغله بعد دخوله عالم الألحان. تعتبر موسيقى إلياس نغمات نافرة عن "السلم " الموسيقي الرحباني، تمزج بين الفن الكلاسيكي العربي، والهارموني الموسيقي الغربي. يكفي ما حققته مقطوعة "عازف الليل" الموسيقية من نجاح لفهم ما كان يسعى إليه إلياس الرحباني من ذلك التزاوج بين شرقيته وتذوقه للموسيقى الغربية، متسلحاً بإتقانه العزف على "البيانو"، وإصدار مجموعة من الأعمال الموسيقية التي أثرت المكتبة الموسيقية العربية والعالمية.
إصابة بسيطة في يده اليمنى شكلت تحولاً في مساره الفني، وجعلته يسعى جاهداً ولو بيد واحدة
لم يبخل إلياس الرحباني منذ بداياته بصوغ ألحان للسيدة فيروز، ليكسر احتكار شقيقيه آنذاك ويحصد مباركتهما، قدم الرحباني لفيروز "الأوضة المنسية" و"يا طير الوروار". ورغم أن الصبغة الرحبانية كانت تحيط بهذا الإنتاج الغنائي القليل للسيدة فيروز من ألحان إلياس الرحباني، إلا أن الجميع سلم بأنها ألحان متغيرة وجديدة في إيقاعها وخطها الغربي البسيط.
كل ذلك لم يبعده عن "شرقية" الموسيقى التي استغلها في أعمال مسرحية، لعل أبزها تعاونه مع الفنانة الراحلة صباح، في الأغاني والأغاني المسرحية، وكيفية صناعة ألحان طغى ضمنها الإيقاع المبني على حالة تناسب خط صباح الاستعراضي السهل، تماما كما حال الرحباني مع صباح في اللون الشعبي، "رقصني هيك"، و"وعدوني ونطروني"، وحتى الوطني، مثل"صبوا فوقك النار" و"مجدك باقي". سلم منصور بموهبة إلياس. وعمل عاصي على عدم المسّ بمقطوعات أو ألحان إلياس إلا قليلاً بعد أن شارك في مجموعة لا بأس بها من الألحان لوديع الصافي ونصري شمس الدين والسيدة فيروز. وكان النبض المختلف في المدرسة الرحبانية التي شهدت عزها في الفترة الممتدة بين الستينيات وحتى الستعينيات، وكان اسمه علامة أخرى من التجدّد ضمن هذه المدرسة، ولم يعارض خروج ابنه غسان عن الطوع أو المدرسة الرحبانية إلى عالم الموسيقى الغربية منتصف الثمانينيات، بل كان داعماً لموهبة غسان ومحفزاً على مساعدة الشاب الذي اتجه إلى الروك، ثم إلى الأعمال النقدية الساخرة التي تحاكي أوضاع لبنان المعيشية خلال وبعد فترة الحرب.
مع الألفية الجديدة، تغير الواقع بالنسبة لإلياس الرحباني، وكان من أكثر الموسيقيين العرب الباحثين عن رؤية جديدة تتمثل في المواهب الجديدة، وقد يكون الموسيقار الأكثر مشاركة في مجموعة من برامج المواهب، بدءاً من "استديو الفن"، وصولاً إلى "ستار أكاديمي"، مروراً بالنسخة الأولى من برنامج " سوبر ستار". في الوقت نفسه، اعتمد مستشاراً لأكثر من شركة إنتاج فنية. وعام 2005، اختير إلياس الرحباني لرئاسة "روتانا أكاديمي" إيماناً منه بمساعدة المواهب، لكنه لم يلبث أن قدم استقالته بعد أقل من ستة أشهر من تأسيس الأكاديمية بسبب سوء الإدارة التي عانى منها، واتخاذ قرارات عشوائية تسببت وقتها بخسائر مالية فادحة للممول والمؤسس لروتانا أكاديمي.
هكذا، كانت حياة إلياس الرحباني صاخبة، لا يهدأ حتى في منزله الذي أسس ضمنه استديو يحتوي على أهم التقنيات الموسيقية، وحاول جاهداً الإبقاء على "نفس" فني موسيقي يضمن جودة الاسم الرحباني، فلم يهزأ من فنانة أو مغنية (لحن لهيفا وهبي أغنية "بدي عيش")، فلم يحمل سيوف الوعظ في وجه "الدخلاء"، بل ربما وجد تفسيراً أو مفهوماً لهؤلاء عرضه لانتقادات كثيرة تجاوزها بخفة.
لم يستسلم إلياس بعد رحيل شقيقه عاصي الرحباني، فظل محلقاً خارج القفص الرحباني، بعيداً عن مملكة منصور التي قدمت أعمالاً منفردة، ربما بسبب الاختلاف الذي حصل، وما زال اليوم بين ورثة عاصي وأبناء منصور قبل وبعد وفاته، ولطالما حاول إلياس، ولو من بعيد، تقريب ذات البين، لكنه كان يصطدم بعوائق كثيرة تبعده أو تبقيه على مسافة واحدة من جميع أفراد العائلة.