يُقال لجماهير الأفلام، إن البث جعَلَ تاريخ السينما بأكمله متاحًا للجميع، مقابل رسوم اشتراك بسيطة، إلا أن منظمة "الأفلام المفقودة" (Missing Movies) تخبرنا غير ذلك. الأخيرة، هي تجمّع لمحبي وصانعي الأفلام، هدفه تمكين صناع السينما وموزعيها وأمناء الأرشيف، وغيرهم من العاملين في مجال أرشفة وتوثيق وحفظ الإنتاجات السينمائية وتوزيعها، من تحديد المواد الفيلمية المفقودة، وتوضيح الحقوق، والدعوة إلى تشريع سياسات وقوانين تجعل إنتاجات السينما بأسرها متاحة لنا جميعًا.
على موقع المنظمة الإلكتروني، قائمة لا حصر لها من الأفلام المفقودة تمتد منذ عام 1890 حتى عام 1990. وتشير المنظمة إلى أنها تستقبل المساعدات من جميع المهتمين لتوسيع القائمة تلك. عدد الأفلام المفقودة غير معروف حتى الآن إذًا. ما هو مؤكد أن ثلاثة أرباع الأفلام الأميركية الصامتة الطويلة قد فقدت، وضاع 70 في المائة من الأفلام الصامتة الطويلة، مع وجود 14 في المائة منها في شكلها الأصلي مقاس 35 ملم. 5 في المائة من الأفلام التي نجت غير كاملة، ومعظم تلك الكاملة موجودة في نسخ 28 أو 16 ملم الأقل جودة.
أما في عام 2017، فقدّر مؤرشفو الأفلام، في مؤسسة فيلم مارتن سكورسيزي، أن نصف الأفلام الأميركية التي أُنتجت قبل عام 1950، قد ضاعت اليوم، ولا يسعى أي من الموزعين الرئيسيين للعثور عليها، وخاصة شركات البث العملاقة، التي تعد جماهيرها بقوائم طويلة ومتنوعة، وتذهلهم بوهم الوصول الفوري والدائم، لكنها في نهاية الأمر، تلقي الضوء بشكل ساطع على إنتاجاتها الأصلية فقط، مشغولة بالصراع القائم بينها وبين منافسيها في سوق البث.
ومع تزايد الصعوبات المتعلقة بتخزين النسخ الصلبة والمادية للأفلام؛ من مساحات التخزين باهظة الثمن، إلى الحرائق الناشبة بفعل مادة النيترات التي شاع استخدامها في أفلام الخمسينيات، إلى جانب إفلاس العديد من الشركات التي أنتجت تلك الأفلام خلال القرن الماضي، لا ترى شركات البث الضخمة، مثل "نتفليكس"، أن لها يدًا في ذلك التاريخ الطويل والمتشعب لأرشيفات السينما القديمة، مع أنها وعدت مشتركيها بمفهوم مغاير لـ "مشاهدة المنزل"، وسرعة الوصول الفردية، خلافًا للعروض المنزلية التي كانت تقتضي الانتظار لبضعة أيام، ريثما يصل الفيلم المنشود عبر البريد، أو إمضاء ساعات لالتقاط نسخة VHS أو DVD من أحد الرفوف في السراديب الطويلة لمتاجر ومحلات الفيديو.
ثلاثة أرباع الأفلام الأميركية الصامتة الطويلة قد فقدت
وفي حين تتملص كل الجهات الحكومية والخاصة من مسؤولياتها تجاه ذلك الإرث السينمائي، يتزايد عدد الأفلام المفقودة باستمرار، ويُقاطع السعي لإنقاذ تلك المتبقية بتسونامي العصر الرقمي، كما يصفه أعضاء مجموعة Missing Movies، والذي سيتسبب في خسارات مستقبلية للسينما الرقمية، تكاد تضاهي تلك التي عانت منها إنتاجات السينما الكلاسيكية. فليس الأمر أن شركات البث العملاقة لا تمد يد العون في ما يخص مسألة الأفلام المفقودة فحسب، بل من المرجح أنها ستزيد من هول الكارثة بعمليات اصطفاء مماثلة، تطاول المحتوى الخاص بها حتى. "لن نعرف متى ستكون المرة الأخيرة التي يُعرض فيها فيلمًا ما"، يخبرنا صانع فيلم The Afterlight (2021)، تشارلي لين، الذي يتحدى فكرة البث والسينما المعاصرة عبر فيلم تجريبي مقاس 35 ملم، من دون أي نسخة رقمية داعمة، ويجمع شذرات قديمة ولقطات لممثلين رحلوا عن عالمنا، تاركين أفلامًا باتت طي النسيان.
يحاول صانع الفيلم محاكاة أزمة فقدان الأفلام القديمة، مشيرًا إلى أنها تتكرر اليوم، لكن بفعل التطور الرقمي الذي تشهده عمليات صناعة الفيلم وتوزيعه هذه المرة، مؤكدًا أن النسخ الصلبة والطبعات المادية للفيلم، مع أنها عرضة للتصدع والتآكل والتلف، أكثر أمانًا لحفظ الأفلام من "براري البث" وشركاته التي تتقافز بشكل مستمر بين صيحة وأخرى، وهي تلاحق فرص الربح. أي فيلم "جرى شراؤه" على أمازون برايم، يضيف مخرج الفيلم التجريبي في مقالة عبر صحيفة "ذا غارديان"، هو "لك فقط طالما أن أمازون تحتفظ بإذن صاحب حقوق النشر لعرضه عليك".
هناك توجهات ثقافية تحدد مدى توفر الفيلم أيضًا. تشرح آمي هيلر، من منظمة الأفلام المفقودة، أنه عند النظر إلى نوعية الأفلام غير المتوفرة اليوم "نرى أفلامًا وثائقية عن الفقراء والأميركيين الأصليين والأشخاص المثليين"؛ إذ توضح قوائم الأفلام المفقودة الطويلة، أن جزءًا كبيرًا منها هو عن مجتمع LGBTQ +، أو أفلام أميركية من أصل أفريقي، أو أفلام لمخرجات نساء وأشخاص ملونين. تثير تلك الحقائق قلقًا حقيقيًا حول مفهوم الذاكرة الثقافية ومن يصونها، وتزعزع ثقة العالم بأصحاب حقوق الطبع والنشر، بوصفهم حماة التراث الثقافي في العصر الرقمي للسينما وقبله المادي.
ظهرت أزمة حقوق الطبع والنشر كمعضلة إضافية في قضية الأفلام المفقودة
وقد ظهرت أزمة حقوق الطبع والنشر كمعضلة إضافية في قضية الأفلام المفقودة، بعد اكتشاف المخرجين سافوكا وجواي أن فيلمهما "القديسين المنزليين" (1993)، لا يمكن عرضه في جامعة كولومبيا، بسبب حقوق الملكية. مشكلة يعاني منها معظم صانعي الأفلام المستقلة التي أُنتجت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، من قبل شركات صغيرة لا وجود لها اليوم.
هذه الأفلام ليست "مفقودة" بالمعنى الحرفي، فهي متوافرة في أرشيفات صناعها، لكنها غير متاحة للعرض والتداول بسبب الأثر الرجعي. عانى صناع تلك الأفلام التقدمية في السابق من إيجاد ممولين لمشاريعهم الفنية المختلفة عما هو سائد حينها، ويعانون اليوم من مشاكل حقوق الملكية من ناحية، ومن عدم قدرتهم على حفظ أفلامهم في ظل انعدام الطابع الديمقراطي لعمليات الحفظ والتخزين والتوزيع.
تُعطى الأولوية للأفلام السائدة، وتُرمى مسؤولية إنقاذ الأفلام المستقلة القديمة على عاتق صناعها، ممن ليس لديهم المال الكافي أو الموارد المطلوبة لتنفيذ عمليات الرقمنة والإتاحة والتسويق، بعدما تخلت عنهم شركات البث الأولى، متحججة بانعدام جماهير تلك الأفلام النخبوية. "الجمهور موجود"، يرد مخرجو تلك الحقبة، "ولكنه يبحث عن الفيلم ولا يتمكن من العثور عليه".
تشير مخرجة فيلم "أطلقتُ النار على آندي وارهول" (1996)، وإحدى أعضاء منظمة الأفلام المفقودة، إلى ذات المعضلة الإنتاجية. فيلمها المذكور وثائقي تجريبي يروي السيرة الذاتية للنسوية الرديكالية صاحبة مانيفيستو "قتل الرجال"، فاليري سولاناس، والتي توجت مزاعمها بإطلاق النار على فنان البوب آندي وارهول. ترى مخرجة الوثائقي ماري هارون، أن فيلمها قد يجد طريقه إلى إحدى منصات البث، لكن السؤال الأهم: من سيشاهد الفيلم في ظل انعدام الترويج له؟ من المرجح أنه سيبقى حبيس الحلقات الفنية النخبوية والنقاشات الطلابية الضيقة.
لا يمكن استرداد الأفلام الضائعة والتالفة، هذا أمر مؤكد. لكن ما يمكن فعله اليوم، على الأقل، هو حماية المتبقي منها بلا سياسات انحياز ولا أجندات، والدفاع عن حقوق الفنانين في امتلاك أعمالهم، ودفعها إلى الجمهور وحفظها بطرق ملائمة، وليس تكديسها في مساحات افتراضية أو مادية لا ترى النور.