استمع إلى الملخص
- أسس الثنائي مركز "نوار" الموسيقي في القاهرة، ليصبح منصة للعروض الغنائية والندوات، وبدأت رحلتهما الفنية في جامعة القاهرة، حيث شاركا في الفعاليات الثقافية والموسيقية.
- أطلقا مشروع "الأفندية" لإعادة تقديم التراث الغنائي بأسلوب جديد، مما جذب الشباب إلى الغناء القديم والتراثي، وأكد على أهمية التنوع في الأشكال الزمنية.
خلال العامين الماضيين، اتسعت شهرة الثنائي الغنائي المصري، محمد ربيع ومصطفى زاهد، وازداد الإقبال على عروضهما الغنائية التي تتنوع زمنياً، لتشمل ألواناً من الغناء الممتد منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن العشرين، وتهتم بأسماء كثير من أعلام الطرب أو التلحين. لم يدرس ربيع وزاهد الموسيقى في معهد أكاديمي، ولكن استطاعا أن يطوّرا من أدائهما بالممارسة العملية، ومخالطة أوساط الموسيقيين المحترفين.
كانت المدرسة الابتدائية أول مسرح غنائي لربيع، وكانت الجامعة الباب الأول للقاء زاهد بالجمهور. كذلك، كانت الملتقى الذي تعرف خلاله الطالبان المهووسان بالغناء أحدهما بالآخر. أثمر التعاون بين الشابين مركزاً موسيقياً في قلب القاهرة يحمل اسم "نوار"، أصبح ساحة مهمة للعروض الغنائية، والندوات الموسيقية.
نجح الثنائي الغنائي في إثارة ضجة كبيرة، بتعاونهما في إعادة تلحين أغان حديثة جداً، وأدائها بأسلوب ينتمي إلى عقدي الثلاثينيات والأربعينيات. منذ أيام، أطلق ربيع وزاهد مشروعاً غنائياً جديداً باسم "الأفندية"، لإعادة تقديم التراث الغنائي، وقدّما الحفل الافتتاحي للمشروع وسط جمهور غفير، وكانت فقرات البرنامج منبئة عن طبيعة المشروع، ولا سيما عندما استمع الجمهور إلى أعمال غنائية ليست شهيرة، أو ألحان صاغها موسيقيون لم يحظوا بشعبية واسعة. وفي لقاء مع "العربي الجديد"، يروي ربيع وزاهد قصة التعاون الفني التي عاشاها معاً، ويتحدثان عن أهم معالم مشروعهما الغنائي الجديد.
في قرية أبوصوير الملأ، التابعة لمركز الواسطى في محافظة بني سويف، ولد محمد ربيع عام 1995، ليجد أباً يحب الغناء القديم، ويهتم بالطرب الحلبي، وأعمال أم كلثوم. يقول ربيع: "امتلك والدي صوتاً ممتازاً يؤهله لأن يكون مطرباً محترفاً، لكنه بقي هاوياً، كان يغني في البيت كثيراً، وكنت ألتقط ما يغنيه، وأحفظه عن ظهر قلب، بسبب تمتعي بذاكرة موسيقية قوية، تحفظ الألحان بسرعة.
يضيف: "في الصف الخامس الابتدائي، لفت انتباه المشرفة على ترتيبات حفل عيد الأم، التي كانت تمر على الحجرات الدراسية، وتسأل عن أصحاب المواهب والأصوات الجيدة. أخبرتها أنني أحب الغناء، فلما سمعتني فوجئت بإتقاني للألحان، وبكثرة محفوظاتي، فجمعت كل معلمي المدرسة ليستمعوا إلى المطرب الصغير. وبالفعل، قدمت الفقرة الغنائية في الحفل، فكان أول أداء لي أمام الجمهور. بعد انتقال ربيع إلى المدرسة الإعدادية، بقيت علاقته الفنية بمدرسته القديمة، فكانت تستدعيه للغناء في كل احتفالاتها".
يختلف الأمر في ما يخص مصطفى زاهد، الذي ولد عام 1994 في محافظة القليوبية، إذ لم يكن لديه أي اهتمام بالغناء إلا في المرحلة الثانوية، إذ أكثر من الاستماع إلى أنماط مختلفة من الأغاني، واهتم بطرب الشيوخ والابتهالات الدينية. بعد الثانوية، التحق زاهد بكلية العلاج الطبيعي في جامعة القاهرة. هناك، بدأت علاقته بالغناء مصادفةً، حين شارك في حفل استقبال الطلبة الجدد، ثم بدأت اللجنة الفنية بالكلية تختاره ليمثلها على مستوى الجامعة. يقول: "بدأت في تعلم العود، وفزت بالمركز الأول عدة مرات في المسابقات الغنائية، وبدأت المشاركة مع بعض الفرق الغنائية".
بعد التخرج، عمل زاهد في أحد المستشفيات، وفي الوقت نفسه عمل لفترة عازفاً على العود مع بعض فرق الإنشاد الديني. أكسبه العزف المصاحب خبرة في الغناء وأداء المقامات، وتصويرها على طبقات مختلفة.
ولأن كثيراً من الأسر تخشى على أبنائها أن ينشغلوا خلال دراستهم بالهوايات و"الترفيه"، كان من الضروري أن نسأل الثنائي الغنائي عن موقف الأهل من هذا الاهتمام الفني الواضح. يجيب زاهد: "في البداية أخذت أسرتي الأمر بشيء من السخرية، كانوا يضكحون قائلين: لا تصدق من يقولون لك إن صوتك جميل، أو يقولون: هل تظن نفسك فريد الأطرش؟ ومع الوقت تبدل موقفهم". مع التطور، بدأ الأمر يتحول إلى تشجيع، فيتذكر زاهد أن والده اشترى له أول عود اقتناه. وأيضاً، لم تكن أسرة ربيع حفية باهتمامه الفني، حرصاً على مستقبله الدراسي، لكن تبدلت مواقفهم عند مشاهدتهم ابنهم ضيفاً على الهواء في أحد البرامج المسائية.
يعيدان تلحين أغان معاصرة بطريقة تنتمي إلى الثلاثينيات
في جامعة القاهرة، التحق ربيع بكلية العلوم، وفي الجامعة كانت فرصة التعرّف إلى زاهد، وبدأت رحلة الصداقة الفنية. استغل ربيع وجوده في القاهرة والتحق بجمعية أصدقاء سيد درويش، وتقدم إلى مسابقة غنائية في الجامعة، وبسببها تعرف إلى المهتمين بالسماع والغناء. وبدأ المشاركة في الفعاليات الثقافية في مراكز الفنون وبعض المسارح في العاصمة المصرية، ثم التحق بأوركسترا وزارة الشباب والرياضة.
بعد التخرج من الجامعة، ظل نشاط ربيع وزاهد الفني متسماً بقدر من العشوائية، فلا عروض منتظمة، ولا عمل ثابتاً بفرق معينة، لكن لم تضع هذه الفترة هباء، إذ يؤكد زاهد أنها أكسبتهم كثيراً من الخبرة والدراية بالأوساط الموسيقية، وطبيعة الحياة الفنية في القاهرة. يؤكد ربيع أنه كان قادراً على التكسب من الغناء طوال هذه الفترة، إلى أن جاءت أزمة وباء كوفيد-19، وفُرض الإغلاق الشامل على كل النشاط الفني، وتوقفت الفرق الموسيقية، وأغلقت المسارح.
طالت المعاناة مع إغلاق كورونا، لكن بمجرد أن سمحت السلطات بعودة النشاط الفني قرّر ربيع وزاهد إطلاق مشروعهما الخاص، المتمثل في إنشاء مركز موسيقي وسط القاهرة، يسهل الوصول إليه على معظم سكان العاصمة، ويكون قادراً على تمويل نفسه، ويصبح متنفساً لعروض مختلف ألوان الغناء، ولا سيما ذلك الغناء الكلاسيكي الذي يميل إليه الثنائي الصاعد، وجمهوره الذي لم يكن حينها إلا دوائر ضيقة من المعارف والأصدقاء وزملاء الدراسة. منح ربيع وزاهد مركزهما اسم "نوار" تيمناً بالعلامة الزمنية المعروفة على المدرج الموسيقي، وبدأ المركز نشاطه، بليال غنائية يحييها الصديقان المطربان، ثم اتسعت العروض لمطربين آخرين.
في "نوار"، وجد المهتمون بالموسيقى مساحات للعرض، والبروفات، والتسجيل، وأيضاً أنشطة ودورات حول الغناء، وورشاً فنية. ووفر المركز فرصة لتعليم الآلات الموسيقية من عود وقانون وكمان وناي، وكذلك آلات الإيقاع مع عدد من المدرسين المحترفين. أصبح "نوار" مركز إشعاع موسيقي وغنائي، يجد فيه كثير من الفنانين مكاناً يحتضن إبداعهم، وأيضاً يجد فيه جمهور القاهرة فرصة للاستماع والمتعة. بالتدريج، اتسع الجمهور المتعلق بالمكان.
يرى زاهد أن أهم الخطوات الفارقة في جماهيرية "نوار" تمثلت في الليالي الثابتة أسبوعياً، لأن اعتياد الجمهور وتأكده من وجود فعالية في يوم محدد، شجع كثيرين على الحضور والانتظام. وقدم الثنائي الغنائي بانتظام ليالي "ما يطلبه المستمعون"، وهو ما لم يكن ممكناً لولا محصول ربيع وزاهد الكبير من الأغاني، بمختلف أزمنتها وأنماطها، فاستطاعا بهذا المحصول الضخم تقديم حفلات يقرر فيها الجمهور فوراً ما يريد من أغان تراثية أو حداثية، موشحات أو قصائد أو منولوجات أو طقاطيق، أعمال لعبد الوهاب أو أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ ومحمد فوزي، وفيروز والرحابنة.
منذ عامين، خطا ربيع وزاهد خطوتهما التي سبّبت اتساع شهرتهما ولفتت وسائل الإعلام المصرية والعربية إليهما، وهي إعادة تلحلين الأغاني الحديثة المعاصرة بأسلوب ينتمي إلى طرق التلحين التي شاعت في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته. أصبحت صفحاتهما على مواقع التواصل الاجتماعي تضم مئات آلاف المتابعين في أيام معدودة، وتسابقت الفضائيات المصرية والعربية لإجراء مقابلات معهما، أو إعداد تقارير عنهما.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، اشتعلت ردات الأفعال المقارنة بين العمل الأصلي وبين اللحن الذي يقترحه الثنائي، واضطر كثير من أصحاب الأغاني وهم نجوم ومشاهير إلى التفاعل ومشاركة العمل والتعليق، ومن بينهم: أكرم حسني، وحميد الشاعري، وتامر حسني، وعزيز مرقة، ورشا رزق. يقدر ربيع أن معظم الأغاني التي أعيد تلحينها وصلت إلى أصحابها، وأنهم تلقوا الأمر بترحاب، وأحياناً بتشجيع.
بالرغم من ردات الفعل الواسعة في الأوساط الغنائية والإعلامية المصرية تجاه تلك الأعمال التي يعيد فيها ربيع وزاهد تلحين أغان حديثة، وبالرغم من تحقيق هذه الطقاطيق جماهيرية كبيرة وتفاعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم إقرار كل المهتمين بالموسيقى والغناء بالجهد والاحترافية في هذه الأعمال، بقيت تحت تصنيف "الغناء الفكاهي"، لأن نقل كلمات أغنية حديثة جداً إلى لحن ذي طابع قديم ينتزع ضحكات الجمهور فوراً.
لذا، رأى ربيع وزاهد أنه من الضروري أن تبقى هذه الخطوة في حجمها الطبيعي، وأنه قد حان الوقت لإطلاق مشروع الأفندية المتمثل بإعادة تقديم التراث الغنائي المتسم بالجودة، ولا سيما في مناطقه التي لم تحظ بتقديم مسرحي لائق، مع حرص على التنوع في الأشكال والحقب الزمنية، وأسماء الرواد أصحاب الألحان أو الأغاني.
يقدم "الأفندية" الموشحات والأدوار والقصائد والطقاطيق، أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، وألحاناً لفريد الأطرش ومحمد فوزي ومنير مراد، لحسين جنيد وعزت الجاهلي وعبد العظيم عبد الحق. مع محاولة التوازن في البرنامج المقترح، والحرص على اتساقه، بتقديم ليالٍ مخصصة لملحن معين، أو أعمال مطرب معين.
نجح الثنائي الغنائي ربيع وزاهد في خلق حالة من الاهتمام والتساؤل والمتابعة، عبر خطوات عملية لافتة، مثل المركز الموسيقي "نوار" أو المشروع الغنائي "الأفندية"، وحتى خطوة إعادة تلحين الطقاطيق الحديثة. ورغم طابعها الفكاهي، كانت في كثير من الأحيان سبباً في جذب انتباه الشباب إلى ذلك الغناء القديم، والألحان التراثية. فالصديقان المطربان يعتقدان أن الحركة بركة، وأن كل الغناء خير، في الطقاطيق أو "الأفندية" أو "نوار".