تلعب الرقابة في البلدان النامية عامةً والعربية خاصة دوراً مركزياً سلطوياً قمعياً، فتحدد وتدجن ما يعرض على الجمهور، انطلاقاً من التابوهات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة. وقد واجهت فنون التعبير المختلفة من سينما ومسرح وتلفزيون وإذاعة نوعاً من التضييق والحذف، بل والمنع إذا لزم الأمر، في حال تعلق العمل الفني من قريب أو بعيد بالشأن السياسي المُغلف بقالب ديني أو قضايا الجنس.
والأمثلة على هذا كثيرة ومتعددة:
- واجه المخرج مصطفى العقاد وفيلمه "الرسالة" التضييق الشديد في كافة مراحل إعداد الفيلم، وتوقف تصويره أكثر من مرة بسبب حساسية دينية لا مبرر لها، ومنع لسنوات كثيرة في بعض البلدان العربية بدعوى ظهور تشخيص حمزة عمّ الرسول فيه.
لا يجوز من وجهة نظر المانعين تصوير الشخصيات الدينية، وظل فيلم "الرسالة" يحمل هذه اللعنات، رغم نجاحه الكبير والمؤثر في أنحاء المعمورة، حتى رحيل مخرجه وابنته بانفجار إرهابي في فندق في العاصمة الأردنية عمّان.
- فيلم "المخدوعون"، الذي أخرجه توفيق صالح عن قصة "رجال تحت الشمس" لغسان كنفاني، وأنتجته "المؤسسة العامة السورية للسينما" في أوائل السبعينيات، عُرض في كثير من التظاهرات الفنية الإقليمية والدولية، لكن مخرجه تعرض للإقصاء والتهميش، كما لو كان عقاباً. وهكذا، ظل توفيق صالح على الهامش لمدة 30 سنة، لم يُسند إليه خلالها عمل ولم يُسمح له بمزاولة الإخراج. وقد رحل عن عالمنا مكلوماً ومحسوراً.
- مسرحية "الحسين ثائراً وشهيداً"، للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي وإخراج كرم مطاوع، عُرضت على "المسرح القومي" في مصر في السبعينيات. لجأ كرم مطاوع إلى حيلة لطيفة، ربما كانت الأولى والأخيرة على المسارح المصرية، بعدما استشعر إمكانية منع العرض في يوم افتتاحه، فسمح بحضور الجمهور في تجارب الأداء النهائية التي وصل عددها إلى 15.
تجارب الأداء النهائية شهدت حضور جمهور واسع، ما أثار حفيظة السلطات المصرية التي أدركت الحيلة، فتجاوبت الرقابة مع تحرك الأزهر بقيادة الشيخ عبد الحليم محمود لمنع المسرحية رسمياً.
الحجة كالعادة كانت المساس بثوابت الدين. هذا هو الموقف الظاهر، ولكن حقيقة الأمر أن السبب كان سياسياً، لأن المسرحية بالدرجة الأولى تؤكد على مفهوم الحرية والعدل فى مواجهة السلطة.
- فيلم "المذنبون" من الأفلام المهمة في مرحلة السبعينيات، وفيه تشريح لطبقات الإنتاج الاقتصادي وفوضى الفساد. الفيلم مأخوذ عن قصة نجيب محفوظ، ومن إخراج سعيد مرزوق. وهو عن مقتل راقصة والتحقيقات التي تلت الجريمة بحثاً عن الفاعل.
وفي إطار التحقيقات، تحتجز الشرطة المدعوين الذين أُقيمت لهم الحفلة من قِبَّل القتيلة. ومع سير التحقيقات أدركت النيابة أن جرائم المدعوين الاجتماعية وفسادهم كانت أخطر بكثير من مجرد أنها جريمة قتل فردية على يد أحدهم.
وبالطبع قامت الدنيا ولم تقعد ضد الفيلم، وانهالت الحملات عليه من كل حدب وصوب من الجهات المتضررة التي تمت الإشارة إليها بشكل عام لكشف تورطها في الفساد. ذريعة الهجوم كانت أن بعض المشاهد إباحية.
وأثيرت حملة ضد بعض الجهات التي مررت الفيلم للعرض، وعوقب الرقباء الذين أجازوه بلفت نظر، وكان من بينهم الكاتب محمود أبو زيد مؤلف "العار" و"الكيف" و"جري الوحوش".
وهكذا، مُنع الفيلم، رغم نجاحة الساحق في دور العرض السينمائي، لسبب إضافي آخر وهو اعتراض نواب من مجلس الشعب عليه بزعم أنه "يُقدم صورة تعيسة ومشوهة عن مصر في الخارج". وتصاعد الأمر حتى وصل إلى الرئيس المصري حينها أنور السادات الذي صَرّح أنه سيشاهد الفيلم وحدة في منزله، لأنه لا يقبل، على حد قوله، "المساس بأخلاق المصريين". وبالطبع لم يُعرض الفيلم مرة أخرى.
ولعلّي وأنا أختم مقالي هذا أسرد عليكم واقعة حدثت لي شخصياً لتتأملوها معي. عاد الكاتب
الكبير ألفريد فرج إلى وطنه مصر بعد غيبة عن الوطن، وبالطبع معروف بمواقفه السياسية الجريئة والشجاعة، واتفقت معه على تقديم مسلسل في الإذاعة المصرية.
وبالفعل، قابلت رئيس الإذاعة حينها ورحب بالأمر. شرعنا بعمل جلسات عمل طموحة، لنقدم عملاً إذاعياً غير تقليدي في رمضان. ولكن أثناء اجتماعي مع رئيس الشبكة للاتفاق على التفاصيل، دخلت علينا إذاعية كبيرة، نجلها ونحترمها، لتبلغ رسالة معينة.
وبعد الترحيب والسلامات وعبارات الإطراء، قالت بصوت عميق: "هل تعتقد أستاذ هشام أن الإذاعة المصرية تقبل بإذاعة مسلسل في رمضان لمؤلف اسمه ألفريد؟"، فأجبت على الفور "لقد سمح الإعلام المصري بما هو أبعد من ذلك. سمحت الإذاعة بمسلسلات تلفزيونية رمضانية لمؤلف اسمه لينين".
صمتت، وأعادت علي السؤال كأني لم أقل كلمة. أحسست بالطبع أن مسألة الاسم تخفي وراءها ما هو أعمق، ولهذا انسحبت وانصرفت بعد أن أدركت أن السياسة هي كل شيء.