تشهد الشاشات اللبنانية زحمة مهرجانات انتخابية وحركة مكثفة للمرشحين الذين يطلّ بعضهم في برامج جديدة مخصصة لتغطية الاستحقاق النيابي المرتقب في مايو/أيار المقبل، فيما يتسلّل آخرون مع أخبارهم وحملاتهم مع برامج أخرى حوارية "قديمة" وبين النشرات الإخبارية. هذا وسط تسجيل مخالفات فاضحة لكن معهودة على وسائل الإعلام التي تستبشر خيراً بهذا الموسم لـ"تنتعش" مالياً، خصوصاً بعد الضرر الذي طاولها جراء الأزمة الاقتصادية.
وعلى الرغم من الدور الداعم الذي لعبته وسائل إعلام لبنانية للانتفاضة الشعبية منها وصل إلى حدِّ مقاطعة نشاطات السياسيين "التقليديين"، بيد أنها لم تغيّر "عادتها" في عدم احترام مبدأ التوازن وتكافؤ الفرص مع تخصيص المساحة الكبرى من هوائها "الانتخابي" لمرشحي الأحزاب والمتموّلين. فيما تستغل غياب القيمين على العملية الانتخابية لرفع كلفة الظهور على شاشتها وخرق جميع القواعد والأصول هي التي تمرَّدت عام 2018 على القضاء الذي أحيلت إليه بسبب مخالفاتها التي سطّرت أيضاً بحق التلفزيون الرسمي.
غياب للقيمين على العملية الانتخابية عن المشهد الإعلامي
حتى الآن، لم تبدأ بعد هيئة الإشراف على الانتخابات النيابية عملها، رغم أن الحملات الانتخابية انطلقت في 10 يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك لعدم توفر "طابق" للمراقبين وقد عاد وتأمّن منذ أسبوع وهو قيد الإعداد حالياً على أن يجهز خلال أيام ويبدأ العمل فيه نحو 30 مراقباً إعلامياً، وفق ما يؤكد رئيس هيئة الإشراف على الانتخابات نديم عبد الملك لـ"العربي الجديد". في المقابل، يشدد عبد الملك على أن تأخر الهيئة في بدء عملها الرقابي لا يعني أن التجاوزات ستمرّ مرور الكرام والتي رصد العديد منها، خصوصاً على صعيد مؤسسات استطلاعات الرأي التي تنشط حالياً من دون الالتزام بالمعايير المحددة قانوناً، والتي لم تقدم طلباً من الهيئة للحصول على إذن بالقيام بعملها، مضيفاً "هذا غير مقبول".
ويلفت عبد الملك إلى أن "هناك سقفاً انتخابياً ثابتاً قيمته 750 مليون ليرة لبنانية للمرشح، وقسماً متحركاً مرتبطاً بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى التي ينتخب فيها وقدره 50 ألف ليرة لبنانية عن كل ناخب"، مشيراً إلى أن "على كل وسيلة إعلامية راغبة في المشاركة في الدعاية والإعلان الانتخابي أن تتقدم للهيئة بتصريح بذلك قبل 10 أيام على الأقل من بداية فترة الحملة الانتخابية وكذلك المساحات التي ستخصصها في هذا الإطار ولائحة بأسعارها بيد أن الطلبات خجولة جداً".
تكثر الشكاوى بحق وسائل الإعلام التي لا تلتزم بلائحة الأسعار التي تقدمها للهيئة ولا سيما على صعيد الإعلان الانتخابي، في وقت تخطت عام 2018 كلفة الدقيقة الواحدة على الهواء خمسة أو ستة آلاف دولار أميركي، وتجاوزت قبل يوم من موعد الاستحقاق العشرين ألف دولار، عدا عن كسرها الصمت الانتخابي المفروض قبل 24 ساعة من الانتخابات، وعدم ذكرها للإعلانات المدفوعة الأجر والجهة التي طلبتها.
ويشير عبد الملك إلى أنه في انتخابات عام 2018، أحالت الهيئة 45 وسيلة إعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة على محكمة المطبوعات، وقد تعرضت لاتهامات بأنها ضد حرية الرأي وتعمل على إفقار وسائل الإعلام وقاد الحملة يومها وزير الإعلام السابق ملحم الرياشي (مرشح حالياً للانتخابات النيابية)، وقد وجهت ثلاثة كتب لطلب تجميد الإحالات وحتى اليوم لم يصدر أي شيء، وللأسف هذه التصرفات تعطل النصوص وتؤثر على رقابة الهيئة. حينذاك، اعتبر الرياشي أن الاتهام الصادر عن الهيئة بحق عدد من وسائل الإعلام بمخالفة الصمت الانتخابي لا يستند إلى دليل أو حيثية مقنعة وهو أشبه بالأحكام التي عكستها الإحالات المجحفة التي تساهم في التضييق المالي على المؤسسات الإعلامية وتلغي ميزة لبنان كبلد للحريات العامة والإعلامية.
من جهته، يقول رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، عبد الهادي محفوظ، لـ"العربي الجديد" إن "مخالفات كثيرة ترتكب حالياً من وسائل الإعلام والمرشحين الذي يمارسون الدعاية الإعلامية بشكل ظاهر، فيما لا سقف للإنفاق بينما هناك صعوبة كبيرة أمام هيئة الإشراف بالقيام بدورها الرقابي ربطاً بالكادرات البشرية غير الكافية وغير المدربة وفق اللازم".
بدوره، يقول المستشار القانوني في مؤسسة "مهارات" طوني مخايل، لـ"العربي الجديد"، إن "الأحزاب التقليدية ما تزال تسيطر على المشهد الإعلامي وتحظى بالحجم الأكبر من التغطيات الإخبارية والبرامج الحوارية. وتبعاً للتقرير الذي أصدرته "مهارات" في يناير/كانون الثاني، وتجريه بالتعاون مع "يونسكو"، فإن القوى السياسية التقليدية نالت 12 في المائة من مساحة التغطية، أما المجموعات السياسية الناشئة بعد ثورة 17 أكتوبر 2019 فقد حازت على 4 في المائة فقط". ويلفت مخايل إلى أن "الرصد أظهر أيضاً هيمنة ذكورية على المشهدين السياسي والإعلامي بـ90 في المائة، فيما حظيَ موضوع مشاركة المرأة السياسية بنسبة 0.05 في المائة من المضامين الإخبارية والحوارية".
هيمنة ذكورية على المشهدين السياسي والإعلامي
وتبعاً لتقرير التغطية الانتخابية الذي يصدر شهرياً عن "مهارات" فإنه رصد غياباً للقيمين على العملية الانتخابية عن المشهد الإعلامي، ما يعني أن الشفافية كانت غائبة في هذه الفترة، وفق ما يقول مخايل. كما رصد غياب التثقيف الانتخابي على محطات التلفزيون مع نسبة 1 في المائة فقط للتوعية الانتخابية. ويشير مخايل إلى أن وسائل الإعلام بدأت بعرض باقة جديدة من البرامج المرتبطة بالانتخابات، كما بدأت البرامج الحوارية الدائمة تغير في شكل عرض الفقرات، فأدخلت عليها مثلاً المناظرة بين المرشحين، ومن الضروري أن تقوم هيئة الإشراف بدورها لوضع الضوابط ولعدم ترك الوسائل الإعلامية تحدد المساحات على هواها وتبعاً لمصالحها بشكل يخرق مبدأ التوازن وتكافؤ الفرص.
على صعيد الترويج والدعاية في يناير، تبعاً للتقرير، فإن القنوات التي أوردت الكميات الكبرى من التقارير الإخبارية عن الشأن الانتخابي هي "أم تي في"، "أل بي سي آي"، ثم "أو تي في"، أما قنوات "أو تي في"، "الجديد" ثم "أم تي في" فكانت الأكثر تغطية لناحية البرامج الحوارية. مع الإشارة إلى أن محطة "أو تي في" (محسوبة على رئيس الجمهورية ميشال عون) خصصت المساحة الكبرى لموضوع الانتخابات.
ومن الواجبات التي يفترض أن تتقيد بها وسائل الإعلام، عدم بث خطاب كراهية أو إساءة، عدم إعلان تأييدها المباشر لفريق أو لائحة معينة، وعدم فتح هوائها لاستطلاعات الرأي من دون أن تكون مقيدة بالأصول، بحيث لا يمكن لوسيلة إعلامية أن تستقبل خبراء يتحدثون عن أرقام مرتبطة بالخسارة والربح وأحياناً كثيرة تكون مؤثرة جداً في العملية الانتخابية من دون أن تطلع الرأي العام على حيثياتها عبر نشر عينة من استطلاعات الرأي ونماذج عن الأسئلة التي وجهت وكلفة الاستطلاع ومن الجهة التي دفعت لإجرائه الأمر الذي لا يحدث حالياً ولا يتم الالتزام به، وفق ما يقول مخايل.
تجدر الإشارة إلى أنّ العدد الأكبر من المؤسسات الإعلامية عاد في الفترة الأخيرة ليدفع للموظفين أجورهم كاملةً بعدما كان يدفع جزءاً منها لأشهر طويلة، ومنها من بدأ يخصص قسماً من الراتب بالدولار الأميركي النقدي. ويأتي ذلك في وقتٍ يتردد أن وسائل إعلام رائدة تحدد ساعاتها للمرشحين بالدولار النقدي وبأسعار مرتفعة جداً، ومنها من بدأ يدعم أشخاصاً ومجموعات سياسية ويخصص لهم مساحات حتى قبل ترشحهم بأشهرٍ لتعريف الجمهور عليهم.
في السياق، يقول المدير التنفيذي لـ"الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات" LADE، علي سليم، لـ"العربي الجديد"، إن "وسائل الإعلام تعتبر الانتخابات موسماً لجني المال، لذلك سنرى برامج تخلق ربطاً بالاستحقاق، وأخرى تخصص مساحات للمرشحين، وستتذرع المؤسسة بأنها جزء من التحديث خلال فترة الانتخابات ولا علاقة لها بالدعاية".
ويضيف سليم: على وسائل الإعلام أن توضح لدى بثها أو نشرها إعلانات انتخابية أنها مدفوعة وتحدد الجهة التي طلبت بثها أو نشرها. كما لا يحق لها أن ترفض أي إعلان انتخابي مطلوب من لائحة أو مرشح ملتزم بالأحكام، وعليها أن تقدم تقريراً أسبوعياً للهيئة يتضمن بياناً بالدعايات والإعلانات الانتخابية والبدل المستوفى وما إلى ذلك.
ويشير إلى أنه عام 2018 كانت الأسعار خيالية بعيدة تماماً عن جدول الأسعار الذي قدم للهيئة، وعادة ما يكون الاتفاق سرياً بين القناة والمرشح، حتى أن الدقيقة الواحدة على الهواء وصلت قبل أيام قليلة من موعد الانتخابات إلى 20 و25 ألف دولار، وقد وصلتنا شكاوى كثيرة في هذا الإطار.
ويتوقف سليم عند استغلال تفريق قانون الانتخابات بين إعلام وإعلان انتخابي، فالأول متاح للجميع بدون مقابل والثاني مدفوع الثمن، وبالتالي فإن وسائل الإعلام كانت تبيع المساحات بغطاء الإعلام الانتخابي الذي لا يدخل ضمن رقابة الهيئة، بينما هو في الواقع دعاية انتخابية.