تكون الانتخابات العامة، والتي عادة ما تتعلق في الواقع باختبار الديمقراطية بشكل دوري، أكثر من مجرد فرصة للتعبير عن الآراء والإرادة السياسية للأحزاب والسياسيين والتي تؤدي للظفر بالسلطة أو إلى فقدانها. في مجتمع المعلومات الحديث، أصبحت وسائل الإعلام غير التقليدية والمنصات الرقمية الوسيط المطلوب في الحملات الانتخابية للجمهور الواسع، بعدما لم تعد الملصقات والأكشاك والبرامج الحوارية كافية وبخاصة في ظل جائحة كورونا. هذا الواقع تعيشه حملات الأحزاب الألمانية للانتخابات البرلمانية العامة المقررة اليوم 26 سبتمبر/أيلول.
تكتسب دورة العام 2021 أهميةً خاصة عن السنوات الماضية، واختلافاً عن الحملات التي خاضتها البلاد سابقاً، إذ تتميّز بسخونتها لكونها تحمل سمتين خاصتين واضحتين: أولاً لم تكن هناك قط انتخابات فيدرالية عامة لا يترشح فيها شاغل المنصب، وذلك مع قرار المستشارة أنجيلا ميركل الانسحاب من الحياة السياسية بعد أربع ولايات متتالية على مدى 16 عامًا الماضية. ومن ناحية أخرى، قامت ثلاثة أحزاب رئيسية، "المسيحي الديمقراطي" و"الاشتراكي الديمقراطي" و"الخضر" بتسمية مرشحين لمنصب مستشار، يتمتعون بآفاق واقعية لتولي المنصب. ولهذا فهي مثيرة للاهتمام من جهة نظر العديد من المراقبين، حيث بات من الواضح أنّ المطلوب الاستعداد لائتلاف حكومي مستقبلي تشارك فيه أربعة أحزاب على الأقل. كذلك، فإنّ الأرقام جد متقاربة بين الاشتراكي المتصدر بنسبة 25 بالمئة من الأصوات أمام حزب المستشارة الذي عاد لتعزيز أرقامه ليستحوذ على ما نسبته 23 بالمئة، فيما الخضر يحل ثالثًا بنسبة 17 بالمئة من الأصوات.
ويقوم النظام السياسي في ألمانيا على تصويت الناخبين لمرشحي الأحزاب إلى البوندستاغ، وليس للمرشحين المحتملين لمنصب مستشار من قبل أحزابهم. وهذا ما قد يفسر سبب فصل تصنيفات ومؤيدي المرشحين للمستشارية عن النسب المئوية لأحزابهم في الاستطلاعات. ومن المعلوم، أنّ فوز حزبهم في الانتخابات ليس ضمانًا لتبوّؤ منصب المستشار، ففي جمهورية ألمانيا الاتحادية لم تتمكن أكبر كتلة برلمانية في عدة مرات من تعيين المستشار لأنها تعتمد على ائتلافات قادرة على الحكم معاً.
استطلاعات الرأي لا تعكس مزاج البلاد السياسي بالضرورة
عن مدى تأثير الإعلام واستطلاعات الرأي التي تضخ استطلاعات وتقييمات بصورة شبه يومية للجمهور، أبرزت الباحثة في علم التواصل كريستينا هولتز باشا من جامعة ارلانغن نورمبرغ، في حديث مع مجموعة "دويتشلاند فونك"، أنّ الكثير من الاستطلاعات التي استندت إلى تقييمات معينة وبعد محدد من المستطلعين، ليست موثوقة بأي حال من الأحوال كما تظهرها الصحافة في كثير من الأحيان. وأشارت إلى أنّ هناك معايير معينة يجب تضمينها بالفعل في تقرير المسح أو الاستطلاع، لأنه من المهم معرفة متى تم إجراؤه وبأي صيغة سؤال، وما هي العينة، وهي جد مهمة وتسمح بتقييم نتائج الاستطلاع وتفسيرها بشكل صحيح، في إشارة منها إلى أنّه لا يزال يتم توفير بعض هذه المعلومات جزئيًا ما قد يساهم في دعم حجة معينة أو ربما لدعم التعاطف مع مرشح أو آخر، وما يجعلها عرضة للتساؤل. ومن المعلوم، أنّ هامش الخطأ في الاستطلاعات عادةً ما يكون بحدود 2,5 بالمئة وفق ما ذكرت صحيفة "دي فيلت" أخيرًا.
وفي السياق نفسه، أشارت "دوتشلاند فونك" الإعلامية إلى أنه وخلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضيين، نشرت ثماني شركات ومعاهد، بينها فورسا وانفراتاست ديماب، أكثر من 50 نتيجة تقييم واستطلاعات رأي، حيث تم دمج نتائج الاستبيانات في المقالات ووسائل الإعلام وعبر الإنترنت، والتي عادة ما تذكر أنّ أرقامها تعكس المزاج السياسي في البلاد، لكن لا يمكن التحقق من ذلك واستخلاص الاستنتاجات حول عامة الناس من عينة عشوائية باستخدام صيغ معينة، وكقاعدة عامة المعيار هو نتيجة الانتخابات نفسها.
من جهة ثانية، اعتبر الباحث توماس تسرباك من جامعة زوريخ، أنّ الاستطلاعات والإشارة المستمرة إليها في التقارير لها عواقب، ووجد أنّ الناخبين يمكنهم أن يتذكروا جيدًا نسبة أداء الأحزاب الألمانية في استطلاعات الراي، لكن ذلك لا يعني أنّهم بالضرورة يمكن أن يوجّهوا أنفسهم إليها عند اتخاذ قرار التصويت. وأعرب تسرباك عن اعتقاده أنّ نتائج الاستطلاعات هي مصدر مهم لمعلومات التصويت، مع الأخذ بعين الاعتبار كيفية استخدامها، مع شريطة أن يتم الابلاغ عن الاستطلاعات بطريقة موضوعية، علماً أنّ دعوات متكررة لحظر الاستطلاعات برزت أخيراً، على الأقل قبل وقت قريب من موعد الانتخابات.
حزب البديل اليميني الشعبوي في طليعة المتابعين على فيسبوك ويوتيوب
وعن دور وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت أداةً مهمة لتحقيق حملات انتخابية ناجحة، بعد ما حققه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية عام 2016 على هذا الصعيد؛ إذ باتت كل من منصة "فيسبوك" و"تويتر" و"تيك توك" وغيرها توفر الفرصة لبناء مجتمعات موازية افتراضية على مر السنوات الأخيرة، أبرزت "شتيرن أونلاين"، أنّ الأحزاب الصغيرة على وجه الخصوص تهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي في ألمانيا. وتتمتع أحزاب المعارضة، وبينها "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، وحزب اليسار، والحزب الليبرالي الحر، بمتابعة أكبر في معظم المنصات مقارنة بالأحزاب الحاكمة، هذا إضافةً إلى أنّ مؤيديهم ومجموعاتهم المستهدفة تضم الفئات العمرية الأصغر سنًا من تلك المنضوية داخل الأحزاب التقليدية.
أخيراً، تبين أنّ الناس في البلاد قضوا في العام 2020 المزيد من الوقت وبما مجموعه 326 دقيقة يومياً على الشبكة العنكبوتية، أي أكثر من خمس ساعات ونصف، تتاح فيها للأحزاب فرصة للفت الانتباه عن طموحاتهم. وعن مؤشر الأهمية الذي توليه الأحزاب لوسائل التوصل الاجتماعي من ميزانيتها على الإنترنت للحملة الانتخابية، ذكرت شبكة "ايه ار دي" الإخبارية أنّ حزب الخضر رصد ما قيمته 2,5 مليون يورو، وهو ما يمثل 20 بالمئة من ميزانية الحملة الانتخابية للحزب البيئي، فيما اليسار استثمر ما قيمته 500 ألف يورو، أما الليبرالي الحر فدفع مبالغ ضخمة أيضاً من دون تحديد رقم معين. وأوضحت أنّه "يتم التركيز من قبلها على منصات "يوتيوب" و"تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام" للتسويق الانتخابي، بعدما ضيقت جائحة كورونا من التجمعات الحضورية". ويعد حزب البديل اليميني الشعبوي في الطليعة من حيث عدد المتابعين على "فيسبوك" و"يوتيوب"، وهو الذي اتكل أساساً على منصة "فيسبوك" لكسب تعاطف الجمهور بكثير من الشعبوية. في المقابل، يحظى الخضر بأكبر عدد متابعين على "تويتر" و"إنستغرام"، وذلك لكون جيل الشباب، والذين يميلون في تأييدهم لحماية المناخ ومناهضة العنصرية والنسوية، يتفاعلون أكثر مع حزبهم ويسعون للتعبئة من خلال المنصتين المذكورتين.
ميزانيات مخصصة للحملات الانتخابية على مواقع التواصل
أما الأحزاب الرئيسية التقليدية فهي أقل حضورًا على كل المنصات وبمستوى تنظيمي متدن، لكن "الاشتراكي الديمقراطي" يعتمد مثلاً على "تلغرام بوت" خاص به، حيث يمكن للأشخاص رؤية محتوى حصري ويمكنهم القيام بحملات من أجل الحزب العريق ضمن شبكة لامركزية مشتركة. في حين أنّ حزب المستشارة ميركل، المسيحي الديمقراطي، يبدو وكأنه تجاهل نسبياً الشبكة الرقمية، بعد أن كان رائدًا خلال حملة 2017 واكتشف حينها فجوةً أمنية في حماية البيانات، كما وتضرره أخيرًا من الضحكة غير اللائقة التي صدرت عن مرشحهم لمنصب المستشار أرمين لاشيت خلال زيارته لمنطقة الفيضانات التي أصابت جنوب ألمانيا خلال يوليو/تموز الماضي، وتعرض بعدها لحملة شرسة على وسائل التواصل الاجتماعي.
ورغم الحماوة والتنافس على كل ناخب، من غير المرجح أن يكون هناك أي تغيير في التصور المتوقع للنتائج. وفي هذا الإطار، يقول الباحث السياسي والخبير في مسائل الاتصالات الرقمية وإدارة الحملات الانتخابية بنديكس هوغلمان، إنه "حتى لو كانت الحملة الانتخابية الرقمية ناجحة وتستثمر الكثير من الأموال عبر الإنترنت، فلا يمكن الاعتماد على تغيير جذري من خلال المتابعين ونقرات الإعجاب".