وسط الشارع الرئيسي في مدينة دهوك أقصى شمال العراق، ضمن إقليم كردستان على الحدود مع تركيا، تصطف عشرات المحلات التي كان بعضها حتى وقت قريب مخصصاً لبيع الأجهزة الكهربائية، لكنها اليوم مقصد للسكان الباحثين عن الجاجيك الكردي، أحد أشهر الأكلات الصباحية في مناطق الإقليم.
سرعان ما تواجهك رائحة قادمة من شارع الموبايلات، وسط مدينة دهوك، وهي خليط من رائحة أغذية مخزنة أو متعفنة، هكذا ستظن لوهلة أنها رائحة أطعمة فاسدة، لحدتها، لكنها سرعان ما تخف بعد ثوان، لتشعر أنها رائحة طعام لذيذ دون أن تدرك مصدر الرائحة، إذا كنت تزور مدينة دهوك للمرة الأولى. هذه هي رائحة الجاجيك، وحرف الجيم ليس جيماً، بل حرف زاي وعليه ثلاث نقاط بدل الواحدة، ولفظه يشبه لفظ الحرف في الكلمة الفرنسية "روج" أي الأحمر. في هذا السوق هناك ستة محال تجارية تبيع هذه السلعة التي باتت نادرة بعض الشيء.
تحول الجاجيك إلى طبق تقليدي مطلوب في الموائد الصباحية خصوصاً لأولئك الذين يميلون للوجبات الخفيفة أو الذين يتبعون حمية غذائية
قبل أن تكون المواد الحافظة رائجة في الأسواق، وقبل أن تحتل الأغذية المعلبة رفوف المتاجر، لم يكن هناك طريقة للحفاظ على الأغذية من التلف إلا بإضافة كميات كبيرة من الملح عليها لتجنيبها التلف. سكان القرى في المناطق الجبلية في شمال العراق بمحافظات إقليم كردستان تعلموا هذه الطريقة. ورغم أنها لم تكن في بادئ الأمر إلا حلا لحماية الأغذية من التلف، إلا أنها تحولت لاحقاً إلى طبق تقليدي مطلوب في الموائد الصباحية، خصوصاً لأولئك الذين يميلون للوجبات الخفيفة أو الذين يتبعون حمية غذائية.
بعد بسترة الحليب وتحويله إلى لبن، فإن الكميات الكبيرة منه لأولئك الذين لديهم أعداد كبيرة من المواشي تكون عبئاً، كون عملية تسويقه ليست سهلة لسكان القرى في المناطق الجبلية، والتي يستغرق الطريق منها إلى المدينة أكثر من ثلاث ساعات عبر طرق وعرة. لذلك يقوم القرويون باستخراج الزبدة من اللبن، أما السائل المتبقي من اللبن بعد انتزاع الدهون منه فيتم غليه، وبعد الغليان تطفو على سطحه مادة تسمى باللغة الكردية بـ "الجاجي"، هذه المادة تتم تصفيتها وتحضيرها لأنها أحد المكونات الرئيسية في الجاجيك، الطبق الذي سنتحدث عنه.
المكون الآخر لخلطة الجاجيك هو ما يعرف باللغة الكردية بـ"اللورك"، ويتم استخراجه من الحليب دون غليه
المكون الأخر لخلطة الجاجيك هو ما يعرف باللغة الكردية بـ "اللورك"، وهذا اللورك يتم استخراجه أيضاً من الحليب، لكن دون غليه، فكما هو معروف فإن الحليب يتحول إلى جبن مباشرة دون الحاجة إلى غليه بإضافة خميرة الجبن، لكن الحليب لا يتحول إلى جبن قطعة واحدة، بل يبقى بعضه سائلاً أبيض اللون مائلاً للصفرة. هذا السائل المتبقي من الجبن، يتم غليه فتطفو على سطحه مادة اللورك، يتم خلطها مع الجاجي الأخرى التي استخرجناها للتو من اللبن بعد فصل الزبدة عنه. هكذا أصبح لدينا نوعان من المواد، إحداها استخرجت من بقايا اللبن بعد فصل الزبدة عنه، والثانية من الحليب بعد فصل الجبن عنه، وهاتان مادتان رئيسيتان في صناعة الجاجيك.
هاتان المادتان يتم خلطهما مع بعضهما البعض، وتتم إضافة الملح، بالإضافة الى عشبة برية تسمى باللغة الكردية السيرك، ثم توضع في جِرار وتحفظ تحت الأرض لتكون درجات الحرارة منخفضة وتساعدها على أخذ طعمها النهائي، مع بداية الربيع حتى بداية الصيف، في مواسم وفرة الحليب. تنتشر طريقة الجاجيك في القرى الجبلية، حيث يمتلك القرويون قطعاناً من المواشي تدر عليهم كميات من الحليب، لا يمكن تصريفها دون حفظها عن طريق تحويلها الى الجاجيك وإعداده للسوق. وبسبب ملوحة الجاجيك الزائدة، فإنّ كمية قليلة قد تكون كافية لإعطائك شعور الشبع، أو الاكتفاء من الوجبة، فطعمها خليط من المالح بسبب الملح الزائد، والحامض بسبب طبيعة اللبن المخزن، بالإضافة الي النكهة التي تحدثها عشبة السيرك.
تنتشر طريقة الجاجيك في القرى الجبلية حيث يمتلك القرويون قطعاناً من المواشي
في سوق دهوك القديم يقول حجي قاسم (70 عاماً) صاحب أحد المتاجر في السوق القديم لـ"العربي الجديد"، إنه يبيع الجاجيك في محله منذ ثلاثين عاماً. ويضيف قاسم أنه يحصل على الجاجيك من القرويين الذين يصنعونه في المنازل ويأتون به للسوق، فلا يمكن صنع الجاجيك في المعامل أو البيوت، دون صنعه في القرى، حيث يكون كل شيء طازجاً، الحليب واللبن والجبن والأعشاب البرية التي تضاف إليه، ويصل سعر الكيلو الواحد لعشرة دولارات تقريباً. أما مصطفى رمضان (73 عاماً) فيقول إنه لا يمكن أن يمر من السوق دون أن يأخذ قدرا من هذا الجاجيك، يضيف رمضان أنه يرتاد السوق لأخذ حصته من الجاجيك منذ عشرين عاماً، وحسب رمضان فلا يجب أن تخلو مائدة الإفطار من الجاجيك.