في جديدها، "الرجل الذي باع جلده" (2020)، تطرح التونسية كوثر بن هنية (1977) قضية الفنّ الحديث، وعلاقته بمأساة الإنسان المعاصر، في سياق تحوّل الفنّ من وسيلة لتسليط الضوء على كوارث البشر وآلامهم، إلى استغلالهم كأدوات. وكذلك، توظيف الإنسان لخدمة الفنّ لا العكس، وتفريغ الفنّ من محتواه، وتجريده من أرفع معانيه وأسماها.
بالإضافة إلى ذلك، يُشير الفيلم إلى أزمة اللاجئين، وقضايا حقوق الإنسان، والحرية الفردية، وتسليع البشر، والهوية، وأيضاً حدود وحرية وأخلاقيات الفنّ والفنان. الإسقاط الاجتماعي حاضر، بنحوٍ غير مباشر، والإسقاط السياسي يحتاج إلى معالجةٍ كتابية، ليكون أقوى وأكثر تماسكاً وإقناعاً.
في النهاية، لم يُنتج نسيج "الرجل الذي باع جلده" قماشة "كانفا" تُلائم رسم لوحة سينمائية مقنعة، رغم بعض الفنيّات البارزة فيه. فالرؤية البصرية في أجزاء كثيرة منه لافتة للانتباه، وهناك نقلة جيدة، نجحت بن هنية في بلوغها مهنياً، على مستوى التكوين البصري، المتناسب جداً مع السياق الفني، حيث المعارض والمتاحف والفنّ التشكيلي الحديث. أسهم في إبراز تلك الرؤية التصويرُ المتميّزُ لكريستوفر عون. على مستوى السيناريو، الذي تُصرّ بن هنية دائماً على كتابته بنفسها، لم تتطوّر المخرجة كثيراً، فكتابتها لا تزال بحاجة إلى تعميق أكثر، والدقّة في بناء الشخصيات، ورسم الأحداث، وأصالة الطرح، وعدم الوقوف عند سطح الأشياء والمواضيع. وقبل كلّ شيء، الابتعاد عن كتابة حوارات ركيكة ومباشرة، توضع عنوة على ألسنة الشخصيات.
كما في أعمالها الوثائقية اللافتة للانتباه، وفيلمها الروائي الأول "على كفّ عفريت" (2017)، يبرز السياسي والحقوقي والاجتماعي والإنساني. في جديدها، يتجاوز الموضوع السياق التونسي إلى نطاق عالمي أرحب وأوسع. وكما في فيلمها السابق، اختارت قصّة حقيقية، بطلها الفنان التشكيلي البلجيكي ويم ديلفوا (1965)، الذي رسم لوحة على ظهر تيم شتاينر (1971)، أحد فناني الوشم السويسريين. يقضي الاتفاق بينهما على أنْ يجلس شتاينر في صالات العرض في العالم كعرض حيّ، لفترات مُحدّدة عامي 2006 و2008، فينال ثلث ثمن المبيع. الأهمّ والأكثر عبثية، يكمنان في التزامه سلخ جلده عقب وفاته، ليُعلِّق الشاري/ المالك "العمل" على جدار منزله.
لم توضح كوثر بن هنية هذه التفاصيل في السياق الفني والإنساني والعبثي، بل في السياق الفني التجاري الترفيهي، الذي يكتسي ثوب السياسة، المُتمثّل في عبور البطل للحدود، ليس كإنسان، له كامل الحقوق والواجبات والحريات والاحترام، بل كسلعة، تُباع وتُشترى، وتتحدّد قيمتها بناء على سعرها المادي.
لضمان عبور آمنٍ من بيروت إلى بروكسل، يوافق الشاب السوري سام علي (يحيى مهايني) ـ أفضل ممثل في قسم "آفاق"، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ على جعل ظهره سلعة. بعد مرور عامٍ على فراره من الرقّة إلى بيروت، بسبب ملاحقة النظام له لأسباب غير سياسية، تتعلّق بحبّه للأرستقراطية عبير (ديا ليان)، وبإيعاز من خطيبها وزوجها لاحقاً، الدبلوماسي زياد (سعد لوستان)، يلتقي سام بالفنان البلجيكي جيفري غودفروا (كون دو باو)، أغلى الفنانين الأحياء في العالم وأهمّهم، في افتتاح معرضه الأخير في بيروت. بعد ترتيبٍ من ثريا (مونيكا بيلوتشي)، مُساعدة غودفروا، يشرح الأخير له وجهة نظره، متفاخراً بقدرته على "تحويل الأشياء التي لا قيمة لها إلى ملايين الجنيهات". ثم يعده، بما له من سلطات ونفوذ، بمنحه تأشيرة شنغن، تتيح له السفر إلى بروكسل، حيث تعيش حبيبته عبير مع زوجها. "سأمنحك سجادة طائرة لتسافر بحرية"، يقول الفنان لسام أثناء عقدهما الصفقة الفاوستية.
اللوحة المتّفق عليها بينهما عبارة عن وشم لتأشيرة شنغن الأوروبية، التي تتيح الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي لفترة محدّدة. بناء على تأشيرة موشومة على ظهره، يُمكن لسام التواجد في أوروبا، والعيش بشكلٍ لم يحلم به إطلاقاً، مقابل ساعات يقضيها جالساً في المتاحف لعرض ظهره، الذي أصبح لوحة فنية تقدّر بملايين الدولارات الأميركية، ويتسابق الناس على مشاهدتها. سام في أوروبا لا يُعتَبر ولا يُعامل كشخصٍ فارّ من بلد مزّقته الحرب، ولا كلاجئ يبحث عن بلد يحضنه، ولا كآدميّ له كرامته وحريته. هو مجرّد غرض يُنقَل من هنا إلى هناك، ويُباع ويُقتنى. واقعياً، تأشيرته لم تُمنَح لشخصه، بل لقيمة ما يحمله على ظهره وأهميته. فهل يستحقّ الأمر؟ هل الثمن كافٍ؟
منذ الانتقال إلى بروكسل، بات يصعب تجاوز العثرات والمواقف المُفتعلة والمُختلقة في "الرجل الذي باع جلده"، إذ زادت وتيرتها، بدءاً من كون التأشيرة مُجرّد تأشيرة زيارة عادية لثلاثة أشهر، لا تسمح لحاملها العمل، بحسب القوانين الأوروبية. كيف لم يستطع الفنان العالمي توفير تأشيرة عمل، أو إقامة فنية؟
هناك أيضاً العراك في المتحف، وتدمير لوحة فنية ثمينة، يبلغ سعرها ملايين الدولارات الأميركية، على يديّ زوج عبير. لاحقاً، يتغاضي مدير المتحف عن القضية ودفع ثمن اللوحة، بعد تدخل سام وتوسّطه. ثمّ القبض على الدبلوماسي، إلخ. مسائل يتنافى طرحها مع أبسط قواعد المنطق. طبعاً، هناك الخاتمة، وعودة الحبيبين إلى سورية من دون مشاكل، ليبدآ معاً حياة سعيدة هانئة، مقابل صفقة أخرى، لا تقلّ فاوستية عن الصفقة الأولى، بين السوري والفنان.
كان يُمكن لـ"الرجل الذي باع جلده" أنْ يكون أقوى وأعمق في كافة جوانبه، بل أنْ يكون تحفة فنية، لو أُحسن استغلال الموضوع وتعميقه، إنسانياً ودرامياً ونفسياً، باشتغال حِرَفي على السيناريو، ورسم الشخصيات، وضبط الحوار. لكنّ كاتبة السيناريو آثرت تناولاً بسيطاً لقصّة غريبة وغير مألوفة، فلم يتجاوز فيلمها حدود قصّته كثيراً.