استمع إلى الملخص
- شهدت الرقابة تطورات مثيرة للجدل مؤخراً، حيث منعت عرض أفلام رغم الموافقة المبدئية على سيناريوهاتها، مما يسبب خسائر للمنتجين ويثير تساؤلات حول أسباب المنع.
- أصبحت الرقابة أكثر تشدداً، مما أدى إلى تراجع حرية الإبداع، حيث تقتصر الأعمال السينمائية على الكوميديا العائلية والفانتازيا، مع تجنب المواضيع الحساسة.
في مصر، لا نستطيع ذكر صناعة السينما من دون ذكر جهاز الرقابة على المصنفات الفنية. ارتباط تاريخي مر بالعديد من التحولات والتغيرات على مدار عقود، ما بين الشدة والانفتاح الجزئي، وما بينهما من محاولات سينمائية تحايلت على جهاز الرقابة، وتحولت بعد ذلك إلى علامات في السينما المصرية. الآن، أصبحت الرقابة كابوساً لدى صناع السينما والفن عموماً في مصر، بعد التحول الكبير في شكل هذه العلاقة التاريخية.
يفكر المبدع في مصر في الرقابة أولاً وأخيراً في رحلته. ففي السينما، جهاز الرقابة هو المتحكم في نوعية الأعمال المقدمة، بداية من عنوانها إلى مشهد النهاية. لذلك، فإن إنتاج عمل سينمائي ينجح في المرور بكل هذه الاختبارات الرقابية إلى الجمهور، وفوق كل ذلك ينجح في الرقابة اللاحقة بعد العرض، مهمة شاقة للغاية إذا كان المبدع يريد قول شيء في عمله الفني. في الوقت الحالي، أصبحت علاقة الرقابة بالفنانين مختلفة عن أي وقت مضى في تاريخ صناعة السينما والدراما.
آخر معجزات الرقابة
شهدت الفترة الأخيرة تدخل الرقابة لمنع العديد من الأفلام، سواء التجارية أو في المهرجانات، أشهرها فيلم "الملحد" للمخرج محمد العدل، وفيلم "آخر المعجزات" للمخرج عبد الوهاب شوقي، رغم الاختلاف الكبير بين الفيلمين؛ فالأول فيلم تجاري طويل، والثاني فيلم مهرجانات قصير، إلا أن طريقة منعهما من العرض واحدة؛ فالرقابة وافقت على سيناريو الفيلمين في البداية قبل منعها عرض الفيلمين. ومُنع عرض الفيلم القصير قبل أيام معدودة من مهرجان الجونة السينمائي، في واقعة غامضة ومثيرة للتساؤلات.
كشفت هذه الوقائع عن شكل الرقابة الجديد الذي تعيشه صناعة السينما المصرية حالياً، وأولها عدم احترام السينمائيين بوضوح، والتلاعب بأعمالهم بمنحها حق التصوير والإنتاج، ومنعها في النهاية، ما يُسبّب خسائر كبيرة للمنتجين، وكذلك بعدم إعطاء تفسيرات رسمية واضحة لصنّاع هذه الأفلام عن أسباب المنع، ورفض إعطاء ملاحظات أو تعديلات مقابل العرض. ما يحدث هو مجرّد منع من دون أسباب، وبطريقة غير رسمية، ومن دون تحمّل مسؤولية القرار.
الشكل الجديد الآخر، هو سيطرة الرقابة على ما يعرض في المهرجانات السينمائية، حتى لو كانت مهرجانات غير جماهيرية مثل "الجونة السينمائي". كان من المتعارف عليه سينمائياً في مصر هو خفة يد الرقابة على أفلام المهرجانات، مقابل سيطرة أكبر على الأفلام التجارية، ولا يدل ذلك إلا على خوف جهاز الرقابة نفسه من القيام بواجباته المتعارف عليها. وأصبحت الرقابة أكثر تشدّداً تجاه نفسها، لدرجة تخوفها من تحمل مسؤولية إعلان منع الأفلام رسمياً، أو إبداء أسباب لهذه القرارات.
رحلة 404
أخيراً، اتبعت الرقابة طريقة أخرى، وهي الصمت ودفن الأعمال المقدمة إليها عن طريق عدم البت بها، ما يدفع صنّاع الأعمال إلى فقدان الأمل، أو فهم مغزى الصمت من تلقاء أنفسهم. ولا يملك معظم صنّاع السينما الجرأة على الحديث علناً عن الرقابة، أو المطالبة بالكشف عن مصائر أعمالهم داخل مبنى الرقابة، لأن ذلك يعني أنه قد لا تُصرّح لهم أي أعمال أخرى، حتى مهرجان الجونة نفسه التزم الصمت في واقعة منع فيلم افتتاحه، "آخر المعجزات". منى زكي ومحمود حميدة، وأسماء أخرى استطاعت توجيه اللوم إلى الرقابة، ولكن على استحياء أيضاً.
ظلّت منى زكي لمدة عامين تنتظر الإفراج عن فيلمها "رحلة 404" من الرقابة، وتوصلت في النهاية إلى عرض الفيلم بعنوان جديد "القاهرة - مكة"، وبعدّة مشاهد وجمل حوارية محذوفة أخلت بالعمل، في حين اعترف محمود حميدة بأن الرقابة على المهرجانات السينمائية نابعة من "إجراءات تتبع السلطة الحاكمة الآن". يتضمن تصريح محمود حميدة تلميحاً إلى أن خوف جهاز الرقابة نابع من المستويات الرقابية الأعلى، مثل الجهات السيادية والأمنية والدينية في مصر.
قديماً، كان جهاز الرقابة يعمل ضمنياً لحماية صناعة السينما. رغم التدخلات الرقابية، فهي كانت تعديلات توافقية بين الطرفين من أجل عرض الأعمال من دون حدوث أزمات سياسية أو أمنية، وكانت الجدار العازل بين الفنانين والسلطة. كان تصريح الرقابة بالعرض يحمي المبدعين من الدعاوى القضائية أو الهجوم الجماهيري أو اعتراضات الجهات الأخرى في الدولة. أما الآن، أصبح الوضع معكوساً، لكون جهاز الرقابة يعمل لتفادي اعتراضات جميع الأجهزة المعنية، خوفاً على مناصبهم قبل أي اعتبارات أخرى.
أمست الأعمال السينمائية التي أنتجت في فترة ما قبل ثورة يناير 2011 أفلاماً جريئة، ولن يستطيع أحد صنعها في الوقت الحالي لجرأتها الكبيرة ومخالفتها جميع المحاذير الرقابية القائمة، رغم أنها عند صدورها كانت أفلاماً عادية. في أيامنا هذه، فإن فكرة ظهور شخصية ضابط شرطة فاسد أو كوميدي أو يدخن السجائر كفيلة بمنع الفيلم، فكيف سنتحدث عن صناعة الأفلام السياسية، أو التي تحمل نقداً اجتماعياً، في ظل اعتراض رئيس الجمهورية نفسه علناً على قصة فيلم "الإرهاب والكباب" الذي أنتج قبل 23 عاماً من توليه الحكم.
لا تحتاج صناعة السينما في مصر إلى جهاز رقابي الآن، في عصر احتكار الإنتاج والأزمات الاقتصادية، وعصر أصبحت فيه عقول المبدعين تفكّر بطريقة رقابية ذاتية، نتيجة الخوف من الملاحقات الأمنية، فدعوى قضائية من أي شخص قد تسبب أزمة كبرى لهم.
كذلك، لا يريد أحد الاصطدام بالسلطة والجهات الأمنية في مصر، ووصلنا إلى مرحلة يعرف فيها الجميع المحاذير الرقابية العليا، المسموح به كوميديا عائلية وفانتازيا أو أعمال أكشن خيالية. وبالنظر إلى إنتاجات السينما في السنوات الأخيرة، فهي لا تخرج عن هذه النوعية. ومع ذلك، لا تسلم من الرقابة التي تتدخل في عناوين الأفلام، مثلاً، أو في بعض النكات والجمل الحوارية التي قد يفهم منها تأويل أو إساءة أو تلميح لأي شيء قد يسبب غضب شخص أو جهة ما.