في عام 2019، سجَّل قطاع ألعاب الفيديو رقم معاملاتٍ بلغ 120 مليار دولار أميركي؛ أي ما يُعادل أكثر من ضعف ما تسجِّله السينما والموسيقى معاً. البعض يعتبر أنّ استحواذ ألعاب الفيديو مركز الريادة في صناعة الترفيه، في العقدين الأخيرين، مؤشّرٌ على أنّها ستغدو المنتج الثقافي المرجعي، الذي سيخلق ويغذّي مخيال العالم في القرن الـ21، كما فعلت السينما في القرن الماضي. البعض الآخر يُصرّ على أنّ ألعاب الفيديو لن تستطيع تجاوز مرتبة الترفيه التقني، الذي يُروِّح عن النفس، فتبلغ مرتبة فنّ قائم بحدّ ذاته، يوحي بمشاعر أكثر تعقيداً من الإثارة والخوف والقلق، الناجم عن المهام الموكولة إلى مُمَارِسه في إطار اللعبة.
العلاقة بين الشقيقتين الغريمتين، السينما وألعاب الفيديو، تتجاوز منطق المنافسة إلى رابط تأثير مُتَبادَل، يجد منبعه في أنّهما تعتمدان على التقاط الحركية، وتتّخذان من التأطير وحركة الكاميرا ـ الإطار مفردات معجمهما، ومن المونتاج (إلى حدّ ما، بالنسبة إلى الألعاب) قاعدتهما النحوية.
غير أنّ السينما تعتمد أساساً على السرد، بينما ترتكز ألعاب الفيديو على الحركة والتفاعل أولاً، والحكاية بدرجة أقلّ. ولعلّ هذا ما يُفسِّر كيف أنّ أبرز الأفلام التي ألهمت ألعاب الفيديو، تنتمي غالباً إلى سينما النوع، والحركة خاصة، كـ"ترون" (1982) لستيفن ليسبرغر، و"كونان البربري" (1982) لجون ميليوس، إذْ شكّلت بنية هذه الأفلام ـ المتمحورة حول التحدّيات التي تواجه البطل في رحلته، بشكلٍ مُتصاعد الخطورة والصعوبة ـ النسق السردي الطاغي على سرديات ألعاب المغامرات، إلى حدّ الاستنزاف. أما ما يطلق عليه اسم "ألعاب النزال"، فوجد في أفلام فنون الحرب، كـ"طريقة التنين" (1972) لبروس لي إخراجاً وتمثيلاً، و"حدث ذات مرة في الصين" (1991) لتسيو هارك (سلسلة من 6 أفلام لثلاثة مخرجين)، مادة خصبة لاستقاء مناخاتها وقواعدها، فضلاً عن الحكايات والشخصيات.
المثير أنّ كلّ شقيقة ـ غريمة منهما تجد في الأخرى وسيلةً لتجديد أسلوبها، والدفع به إلى آفاق جديدة. مخرجو السينما اعتمدوا كثيراً على التفاعلية لتجديد خطابهم، كما فعل عباس كيارستامي، بشهادة جان ـ لوك غودار، الذي قال إنّ السينما بدأت بغريفيث وانتهت عند المخرج الإيراني، لأنّه كان آخر من دفع بخطاب الأفلام إلى الأمام، حين أتاح للمُشاهِد موضع قدم، للمشاركة في صنع طرح الفيلم.
كيف لا نرى ـ في تأطير غاس فان سانت لأبطاله من الخلف، بتركيزه على الجزء الأعلى من أجسادهم، في لقطات المتابعة الطويلة والآسرة من رائعته "فيل" (2003)، أو التقاط مجال رؤيتهم الذاتية مع مقدّمة السلاح الناري الرشّاش ـ تأثيراً واضحاً من جماليات ألعاب المغامرة، خصوصاً أنّ مرجع ألعاب الفيديو حاضرٌ بقوّة في الفيلم، باعتباره أحد أهم وسائل ترفيه الشّابين، لتمضية الوقت قبل الشروع في ارتكاب مذبحة "كولومباين".
من جهتهم، يحاول مخرجو ألعاب الفيديو استثمار الحدود المشتركة، القابلة للاختراق من الجانبين، بين وسيلتي التعبير، بإدراجهم مقاطع سينمائية، تقطع مع متوالية المواقف التي يوضع فيها اللاعب، وتحتّم عليه اتّخاذ حركات معيّنة واختياراتٍ تفاعلية لإنجاح التحدّي، ولتعطيه فرصة للتقدّم في الحكاية، وتتيح إمكانيةً أكبر للتماهي مع الطّرح. لكنّ هذه الإمكانيات تصطدم سريعاً بحاجز صلب وعنيد، متأصّل في طبيعة ألعاب الفيديو كوسيطٍ: ضرورة حضور مُجسّم الشخصية، التي يتحكّم فيها اللاعب، في الصورة (أو ما تُشاهده)، ما يحدّ بشكل كبير من هامش الابتكار عبر المونتاج، وتنويع زوايا النظر، واختزال الزمن. لكنْ، يكمن أكبر تحدّ، يحلم بتجاوزه المشتغلون جميعهم في مشاريع الابتكار في حقل الألعاب، في تحقيق أحاسيس مُعقّدة، كالتعاطف، أو التطهير الوجودي، التي لا تزال عصيّة على خطاب الألعاب في شكلها الحالي، رغم أنّ التقدّم الكبير على مستوى تقنية الانغماس يَعِد بالكثير في هذا الصدد.
يُعدّ مجال الواقع الافتراضي، اليوم، أهم ميدان للصراع حول النّفوذ، بين السينما وألعاب الفيديو
يُعدّ مجال الواقع الافتراضي، اليوم، أهم ميدان للصراع حول النّفوذ، بين السينما وألعاب الفيديو، لحَسم طبيعة الوسيط، الذي سيستثمر بشكل أفضل وأمثل الإمكانات العظيمة، وهامش التطوير الهائل، المُتجسِّد في هذه التقنية الثورية. الامتياز واضح في جانب الألعاب، لكون السينما، بحكم طبيعتها، لا تصنع زوجاً منسجماً مع الانغماس، لأنّها تفرض الحفاظ على مسافة معينة، ونقطة ارتكاز لوجهة النظر (بالمعنيين الفيزيائي والمعنوي)، حتى يظلّ المُشاهِد مُتملّكاً لوسائل خلق تصوّر خاص به إزاء ما يُشاهده، درءاً لكلّ تدليسٍ أو احتيال، بدلاً من أنْ ينغمس بشكلٍ كامل في الأحداث والأجواء، وهذا لا يطرح أيّ مشكلة للألعاب، بل يُمثّل أحد عناصر تميّزها.
"لحم وحلبة" (2017)، فيلمٌ قصير لأليخاندرو غونزاليس إيناريتو، مُصوَّر بتقنية الواقع الافتراضي، يضع المُشاهد، بمجرّد أنْ يعتمر خوذة رقمية، وسط مجموعة من المهاجرين السريين المكسيكيين، في عبورهم الحدود مع الولايات المتحدة الأميركية. هذا أحد أهم الأعمال التي أعطت لمحة مثيرة للاهتمام عن مستقبل علاقة السينما بتقنيات الانغماس.
بدورها، تأثّرت السينما كثيراً بألعاب الفيديو، منذ سبعينيات القرن الـ20، من خلال صوغ عوالم الأفلام، أو إخراج بعض مَشاهد سينما الحركة، خصوصاً بالكاميرا الذاتية، حيث حقّقت الألعاب تطوّراً مُذهلاً، أو تقنية "ستوب ـ موشن"، التي حقّقت خرقاً ونتائج مبهرة في سينما التحريك، أو اقتباس الألعاب نفسها في أفلامٍ، ما حقّق لاستديوهات الإنتاج أرباحاً طائلة، بفضل النهل من شعبية الألعاب في أوساط الشباب.
لكنّ القيمة الفنية لمعظم هذه الأفلام مُتدنّية بصفة بيّنة، ما جعلها أحد أسباب ترسيخ ظاهرة ما أسماه مارتن سكورسيزي "سينما مدن الترفيه"، إلى جانب القصص المصوّرة عن الأبطال الخارقين.
الاستثناءات، المُكلّلة بشيءٍ من التوفيق، نادرة للغاية. هناك مثلاً "سايلنت هيل" (2006) لكريستوف غانز، حيث استُخدم التوتّر، المُستقى من أجواء اللعبة، بذكاءٍ، لخلق مشروع جمالي مختلف، وتطويره بأدوات السينما. كان تفرّد أسلوب غانز ومغامرته بتملّك الفيلم، وأخذه بعيداً عن اللعبة، من دون أنْ يخون روح هذه الأخيرة، حاسِمَين في إنجاح التجربة، ما ساهم في خلق فيلمٍ فريد، لا يشبه أفلام الرعب، لأنّه يحتوي على جينات الإبهار البصري، وأفكار استثمار الفضاء المتأتية من صلب أسلوب الألعاب تحديداً.
تبقى تجربة جيمس كاميرون الأهمّ، والأكثر دلالة على نسق التأثير المتبادل بين السينما وألعاب الفيديو. كانت ملحمة "ترمينايتور" (أول جزء منه مُنجز عام 1984) أحد الأفلام الأكثر تأثيراً على الإطلاق في جماليات الألعاب وسردياتها على حدّ سواء (فضلاً عن أنّها مُقتبسة في لعبة فيديو ناجحة)، قبل أنْ يتلقّف المخرج نفسه مفاتيح عوالم ترفيه الفيديو، لخلق أجواء "أفاتار"، بعد 25 عاماً، مُكمّلاً دائرة تأثير فاضلة، عساها تقول إنّ العلاقة بين الوسيطين يُمكن أنْ تنحو إلى التنسيق والتطوير، بدلاً من المنافسة المهدّدة بالمحو أو الاختفاء، كما كان الأمر بين التشكيل والفوتوغرافيا، في أواسط القرن الـ19، والسينما نفسها والمسرح، بداية القرن المنصرم.