اكتست صناعة الفيديو كليبات داخل العالم العربي، في السنوات الأخيرة، أهميّة بالغة ضمن مسار التحديث الفني الذي طاول الأغنية العربيّة منذ بدايات ستينيات القرن الماضي، بعدما عملت جملة من التجارب الغنائية على تجديد لغة الصورة وجعلها تأخذ طابعاً فنياً محضاً.
وعلى الرغم من بساطة هذه الفيديو كليبات على مستوى صناعتها الجمالية، إلّا أنّها شكّلت عنصراً مُهماً لأغانيها على مستوى الدعاية وعائداتها التجارية، ما انعكس إيجاباً على صناعة الأغنية ككّل داخل العالم العربي. فَصُور هذه الفيديو كليبات بالأبيض والأسود استطاعت خطف وجدان الجمهور العربي، إذ إنها أقرب إلى واقعه ومشاغله أمام ميكانيكية المُصوّر في نقله لحيثيات هذا الواقع، من دون اللجوء إلى توابل بصرية تسقط في فخّ المحاكاة الغربية وسُلطتها، بحكم سبقها التاريخي في هذا المجال.
لكن جيل الستينيات، رغم مجهوداته ونباهته الفنية، لم يستطع الإفلات من سُلطة التأثير الغربي عبر نماذجه الأولى، فرياح التحديث شملت مختلف أنماط الفنّ العربي ذات الارتباط بالصورة، مثل السينما والتصوير الفوتوغرافي وصناعة الإعلانات. وأمام الذهول الذي خلقته آنذاك جماليّات الصورة وسحرها، انتقل جميع العاملين في هذه الصناعة من آلاتهم الموسيقية التقليدية صوب إنتاجٍ أغانٍ بمُواصفات غربية إيقاعاً وصورةً.
إلا أن توغّل الفنّان العربي في خلق هوية حداثية بصرية لم ينف سقوط تجاربه الكبيرة داخل مُستنقع الاستلاب الغربي، أمام بوادر وملامح ثقافة ترفيهية انتبهت لها مُبكّراً مدرسة فرانكفورت الفلسفية مع تيودور أدورنو، وعملت على شحذ مفاهيمها الفكرية وترسانتها النقدية صوب هذا المدّ الترفيهي الذي اكتسحت عوالمه خصوصية الفنّ الغربي وعطّلت مساره الحداثي.
ففي الوقت الذي عمّ فيه التشكيك صناعة "تحديث الفيديو كليبات" الغربية، كان العالم العربي مهووساً بعنفوان بهذا الطوفان البصري الذي اجتاح أغنيته، محتفياً به بصرياً داخل فيديو كليبات مُنغمسة في فخّ تدوير صورة هي مرآة لحداثة فنية باهتة ومُتصدّعة، قِوامها الترفيه وسندها الاستهلاك.
وقد حقّقت فيديو كليبات أغانٍ عربيّة نجاحات تجارية منذ بداية الألفية الجديدة، جعلتها تحتل نصيباً من المركز الفني، بسبب تحوّلات أنماط صورها وموسيقاها الإلكترونية وتشبثها بالطفرة التكنولوجية ووسائطها البصرية في عملية الإبداع الفني، بوصفها الطريق الأسهل صوب نجومية مُرتبكة تفتقر إلى تناغم الحسّ البصري بين الصوت والصورة.
والكليبات العربيّة عامة لا يُمكن النظر إليها باعتبارها أثراً فنياً مُستقلاً عن الأغنية، فحجم صدى ومحاكاة النتاج البصري الغربي يتبدى منذ مشاهدها الأولى، ما يُفسّر لجوء الكثير من الفنّانين إلى التكنولوجيا ومُؤثراتها البصرية، بغية نسج خيوط فنية بين الصورة والمُشاهد. وهذا الأخير يجد نفسه مُنبهراً أمام الـ"كليشيه" البصري، في غيابٍ تامّ لأشكال صناعة جمالية قائمة بذاتها ولا تستعير لسان الآخر أو يده، فتكون قيمة مُضافة إلى تجربتها صوتاً وصورة.
وهذا العجز الفني والانحصار الإبداعي الرهيب الذي طبع هذه التجارب الغنائية لم تستطع التكنولوجيا النجاح في التستّر على بعض أعطابه الفنية والجمالية داخل صناعة كليباتها، إذ إن افتقار فنّانٍ إلى جماليّات الصوت وقوّته يجعله يلج بسهولة إلى تكثيف الموسيقى الإلكترونية وتوليفاتها وإيقاعاتها الصاخبة، فيستطيع بذلك التغلّب على عجزه الفني.
لكن المشكلة أنّ صناعة الكليبات الفنية لا يستطيع المرء التستّر عليها، بحكم أنّ نسق وماهية الصورة ليس الإخفاء والترميز، وإنّما الإفصاح والإظهار لكلّ شيء، لأنّ طبيعة الفيديو كليبات مُوجّهة إلى العين وليس إلى الأذن، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة ممّا يتصوّره المرء.
لهذا السبب، تأخذ صناعة الفيديو كليبات أشهراً طويلة في تصويرها وتوليفها وتوضيبها وصنع جماليّاتٍ خاصّة بها قبل عرضها، وقد تتجاوز مدة تأليف الأغنية والألبوم. في السنوات الأخيرة لجأ العديد من الفنانين العرب إلى مخرجين سينمائيين لصناعة فيديو كليباتهم الغنائية، تفادياً لكلّ صعوبة تطاول المخرج الفني. إذْ إنّ جماليّات الصورة والصوت ومدى إمكانيتهما في خلق تواصلٍ مع المُشاهد لا تتحقّق إلّا من لدن مُخرج عارف بخبايا الصورة وألوانها.
فتركيب مَشاهد تمثيلية داخل قالبٍ موسيقيّ ليس أمراً سهلاً. ونُشير في هذا الصدّد إلى تجربة ناجحة للمُخرج اللبناني الشاب نديم حبيقة في إخراج كليباتٍ غنائية لفرقة "أدونيس". رغم كون حبيقة مخرجاً سينمائياً، إلا أن هذه الصناعة الفنية تستهويه، علماً أن الكثير من نقاد الفنّ يعتبرونها بعيدة عن السينما، مع أنّها قريبة أكثر من مُنطلق المعاصرة، بحيث أنّ الصورة السينمائية في الزمن المعاصر لم تعُد كياناً مُستقلاً بجماليّاته، فهي دائمة البحث عن وسائط أخرى.
وبما أنّ صناعة كلّ من الفيديو كليبات والسينما تهمّان وسيطاً واحداً هو الصورة التي تُعضد تقنياً وجمالياً هذه العلاقة، فإنّ نجاح المُخرج في تأصيل هذه الصناعة وجعلها تنفلت من التكرار البصري يبدو واضحاً في هذا الصدّد.
فالمخرج بطبيعته مشغول بصناعة أنماطٍ جديدة للصورة، والعجز الفني الذي تتخبّط فيه الفيديو كليبات العربيّة يستطيع المُخرج مُعالجته وتحريره، عبر إنتاج صُورٍ جديدة للكليبات الغنائية، تحتكم في طرائق تشكّلها إلى سياقاتها التاريخية والفنية والجمالية، وتنفلت بذلك من قبضة التدوير وسُلطته وباقي كل أشكال ومظاهر الاستلاب الغربي التي لا تزال ترخي بظلالها على الكليبات الغنائية العربيّة، أمام قوّة أصوات الكثير من الفنانين الذين تحبل بهم الساحة الفنية العربيّة.