استمع إلى الملخص
- اللهجات العامية تعكس الحياة الواقعية وتعبيراتها الاجتماعية، مما يجعلها جزءًا مهمًا من الدراما، لكن قد تعيق فهم الممارسات السياسية والاجتماعية كما في "ليالي الحلمية" و"زيزينيا".
- تحتاج هذه الإشكالية إلى دراسة معمقة لتطوير استراتيجيات تضمن وضوح الرسالة الفنية والاجتماعية، مما يعزز انتشار الأعمال الدرامية بين الثقافات العربية.
في اليوم العالمي للغة العربية، تبدو المسلسلات العربية في منأى عن أي نقاش أو نقد حول لغة الخطاب التلفزيوني، خصوصاً أننا وفي الغالب أمام عروض تلفزيونية تعتمد الحوار أكثر من اعتمادها على الصورة، وهو اختلال يمكن مناقشته نقدياً في مناسبة أخرى. واعتماد الحوار هذا يقتضي أن يكون هو نفسه مفهوماً على الصعيد السماعي، ناهيك عن فهم البيئة المولدة للعمل الدرامي التلفزيوني، فاختلاف البيئات العربية لا تغطيه اللغة إلا بشكل جزئي للغاية، فاللغة في المقام الأول هي "تصور" للمعنى بعد سماع اللفظ، وليس مجرد إشارات صوتية تحدث تفاهماً ما، وبانقطاع التصورات، أو نقصانها بطريقة أو بأخرى، لا يستطيع العمل الدرامي حصد التصور المطلوب، وبالتالي يحدث انقطاع في الفهم والتفاهم، وهو ما يؤثر في التذوق والتقبل. وهنا نواجه مطلباً أساسياً، وهو أن تكون لغة هذه الدرامات التلفزيونية مفهومة ومتفهَمة في كل البقاع الناطقة بالعربية.
باستثناء اللهجتين الشامية والمصرية، من الصعب أن نجد لهجة عربية مفهومة عابرة بين سكان العالم العربي، واللهجتان حصلتا على هذه المكانة نتيجة طول فترة طرقهما للأسماع فقط من دون معرفة بواقع حال هاتين البيئتين من قبل من هم خارجهما، وعليه لا تستطيع اللهجات الموازية الأخرى أن تنقل بحساسية وصدق مقومات الدراما النابعة من البيئة حتماً، وهنا لا يبقى من هذا الجهد الإبداعي إلا خطوط عامة عن صراع درامي حدث في أي مكان، بحيث يفقد المشاهد البعيد عن هذه البيئة "التصور"، ليبقى العلم والخبر عن حدوث صراع كهذا من دون معرفة عملية بالشخصيات ودوافعها وفعلها الاجتماعي، وبالتالي نحن أمام جهد مخصص لبيئة محددة تتصور الحوارات والمواقف، واللغة العربية هنا عامل عام، وربما شعاراتي، يعتبر أن اللهجات العربية مفهومة تماماً في كل أصقاع العالم العربي، بينما كان مسلسل شهير مثل المسلسل السوري "ضيعة ضايعة" قد اضطر صناعه لوضع سطرجة (subtitle) لترجمة لهجة المدينة السورية (اللاذقية)، كي يصل التصور إلى الجمهور السوري أولاً، وهنا يمكن أن ندخل في تعداد وإحصاء اللهجات العربية، بالتقاطع مع البيئات، فالبيئة الكويتية هي غير البيئة العُمانية، فكيف إذا قارنا واحدة من اللهجات العراقية مثلاً بواحدة من اللهجات المغاربية؟
عسى بهذا الكلام أن يحمّس النقاد العرب على تفحص هذه الإشكالية ونقدها والبحث عن حلول لها، فما نتكلم عنه هو أكثر المنابر وصولاً إلى أكبر عدد ممكن من الناس وفي بيوتهم أيضاً، والتجارب الإبداعية تحتاج إلى الانتشار لأقصى مدى ممكن، وبالتالي إلى أحسن تسويق ممكن يسمح بإعادة الإنتاج نتيجة توسع سوق الدراما التلفزيونية عربياً على الأقل.
ربما كانت هذه اللهجات العامية نفسها تشكل مشكلة للغة العربية الفصحى التي يجب أن تكون القاسم المشترك لجميع الثقافات العربية، ولكن ومع أنها تشكل قوام العامية وبنيتها، إلا أن العاميات اللفظية تلتصق أكثر بالمعنى التصوري لممارسة اللغة في الحياة الواقعية، عن طريق التعبير عن سيرورة الحياة، في المحسّن والمقبّح من الأداءات الاجتماعية التي تنقسم إلى خير وشر، أو عار وافتخار، أو خطأ وصواب، وهذا ما تفرزه اللغة العامية ولهجاتها، باعتبارها تصوراً جماعياً لهذا الفعل أو ذاك، بما هو خير أو شر، ليشكل أحد أقطاب الحكاية الدرامية المعتمدة على الحوار أولاً، وبالتالي السماع والتفسير، وليس السماع والتصور المباشر.
لدى عرض الأجزاء الأولى من مسلسلي "ليالي الحلمية" (عرض الجزء الأول عام 1987، من بطولة يحيى الفخراني وصفية العمري وفردوس عبد الحميد وصلاح السعدني وسهير المرشدي وحسن يوسف وهدى سلطان، وتأليف أسامة أنور عكاشة)، و"زيزينيا" (عرض الجزء الأول تحت عنوان الولي والخواجة عام 1997، من بطولة يحيى الفخراني وآثار الحكيم وفردوس عبد الحميد وهدى سلطان وجميل راتب وأبو بكر عزت، من تأليف أسامة أنور عكاشة أيضاً)، لم يتمكن الجمهور العربي من تصور الممارسة السياسية التي كانت قبل 23 يوليو/ تموز 1952، لأن الفضاء الإجتماعي العربي بعد هذا التاريخ ممنوع من السياسة، فكيف لمفردات بائدة أن توصل تصور الممارسة السياسية للمصريين بين أفراد المجتمع العاديين الذين يشكلون جمهور المشاهدين العرب باللهجة المصرية المعروفة للغاية بين الناطقين بالعربية؟ هذا مثال تبسيطي، فإذا أخذنا أمثلة أخرى عن الثأر، وجرائم الشرف، أو تحرر المرأة، باعتبارها مواضيع متداولة في الدراما التلفزيونية العربية، فقد لا نصل إلى تصور متطابق إلا بتوسيط التراث، لتبسيط المفهوم الاجتماعي ليأخذ شكل العبر البديهية التي يعرفها الجميع، لينتفي الفرق بين مسلسل ناطق باللهجات المحلية العربية وأي مسلسل أجنبي بغض النظر عن منشأه.
هي إشكالية. مسألة اللهجات العامية هذه تحتاج إلى درس وتمحيص معرفيين للوصول إلى استراتيجيا تداول الفنون الإبداعية بين الثقافات والشعوب العربية، وإلا سوف نحتكم إلى قوة كميات الإنتاج التي تُخضع بقوتها الإعلامية بقية الأعمال الدرامية، حيث يبدو حل هذه الإشكالية من هذه الناحية وكأنه إقامة للعدل الإبداعي بين كافة اللهجات والعاميات اللغوية.
جميع لغات الأرض لديها عاميات ولهجات مختلفة، ولكن الوضوح الاجتماعي يسهل على أي متلقٍ الوصول إلى التصور المقصود، بواسطة الطرائق المعيارية للكتابة والإخراج، ربما بهذا بعض الحل لإشكالية خصوصية اللهجات العربية في المجتمع والإبداع الفني.