باي شين كيان (Pei-Shen Qian)، أستاذ رياضيات ورسام صيني، غادر بلاده وذهب إلى الولايات المتحدة. غلافيرا روزاليس (Glafira Rosales)، وسيطة ووكيلة فنية تعمل، أيضاً، في الولايات المتحدة. التقيا هناك في بداية التسعينيات، ليسطّرا حكاية مثيرة حول أكبر عملية احتيال فني حصلت في تاريخ الولايات المتحدة، كما يصفها الفيلم الوثائقي Made you look: A True Story About Fake Art، أو كما اختارت "نتفليكس"، التي بدأت عرضه أخيراً، أن تترجمه إلى العربية "بريق خادع: قصة حقيقية عن فن مزيف"، للمخرج الكندي باري آفريتش. لكي يكتمل نصاب فريق المحتالين، لا بدّ من طرف ثالث في هذه العملية. هل هناك ما هو أفضل من مدير دار عرض مهمّة وذائعة الصيت وعريقة؟ هكذا، تمسي آن فريدمان (Ann Freedman)، مديرة غاليري "نودلر" النيويوركي (Knoedler)، "شريكةً" في هذه العملية، ولا نعرف تماماً إن كانت متواطئة مع روزاليس، أو "ضحية غبية"، كما وصفها أحد الصحافيين الذين استضافهم الوثائقي للتعليق على القضية.
بالعودة إلى أستاذ الرياضيات الصيني باي شين كيان، فقد كان الرجل، كما يشير الوثائقي، فناناً جيداً في بلاده، وذهب إلى بلاد العم سام، لعلّه يستطيع أن يجد لنفسه موطئ قدم في سوق الفن هناك، وهي سوق كبيرة، محكومة برأس المال، وبرجال الأعمال، وأولئك الأثرياء المهووسين بالفن وجمعه وتعليقه على جدران منازلهم الفخمة. لم يجد الرجل مكاناً له في هذه السوق، لكنّه تعرّف إلى روزاليس وعشيقها الإسباني خوسيه كارلوس دياز. الأخير، مُدان سابق (1999)، بعمليات احتيال وتزوير أعمال فنية. روزاليس، امرأة غامضة لا يعرف أحد عنها شيئاً. باي شين كيان، يعمل في الكواليس بناءً على تعليمات روزاليس؛ يزوّر لوحات لفنانين كثيرين، أبرزهم مارك روثكو، وجاكسون بولوك. يزوّرها بإتقان، لدرجة أن ابن بولوك لم يستطع تمييز لوحة مزيفة ومنسوبة لأبيه، مع أنّها كانت في قاعة المحكمة بتهمة أنها مزورة، ووصفها بـ"الجميلة"، رغم إدراكه لاحقاً أنها مزورة.
فجأةً، ظهرت روزاليس في الحياة الفنية، وتعرّفت إلى آن فريدمان، مديرة الغاليري، وقالت لها إنّ لديها أعمالاً مجهولة لروثكو وبولوك وغيرهما، رافضةً الإفصاح عن هوية أصحابها بحجّة السرية. تحمّست فريدمان للأمر، خصوصاً أنها استطاعت الحصول على هذه الأعمال بأسعار متواضعة نسبياً. وما سنعرفه لاحقاً، أن صاحب الغاليري، مايكل هامر (Michael Hammer)، وهو رجل أعمال وثري معروف، كان يحتاج إلى المال تجنّباً لتعرّض الغاليري إلى الإفلاس. وبهذا، حصلت فريدمان على عدد من اللوحات، التي عرضتها على مختصّين أكّدوا أنها أصلية.
ليست فريدمان من تعرّضت إلى الخداع وحسب، بل دور مزادات عالمية ومهمّة خُدعت أيضاً، أبرزها كريستيز، التي باعت بعضاً من هذه اللوحات في مزاداتها
ليست فريدمان من تعرّضت إلى الخداع وحسب (يعتقد البعض أنها كانت على علم بأن اللوحات مزورة ولم يخدعها أحد)، بل دور مزادات عالمية ومهمّة خُدعت أيضاً، أبرزها كريستيز، التي باعت بعضاً من هذه اللوحات في مزاداتها. كثيرون اشتروا هذه اللوحات وعلّقوها على جدرانهم بزهو. لكن أحد المشترين طلب أن تُعرض هذه اللوحة على مؤسسة يثق بها، كي تقيّمها. وبعد فحوصات أساسية عديدة، كالتحقق من الألوان، والأسلوب، ونوع القماش المُستخدم، جاء التقرير بأنّ هذه اللوحة ليست لـ بولوك. وهنا، بدأت الحكاية تتخذ منحى مثيراً. إن كانت هذه اللوحة ليست لـ بولوك، فمن رسمها؟ ومن يعلم أنّها مزورة؟ هل دار نودلر على معرفة بذلك؟ أم أنها ضحية؟ اكتشاف هذه اللوحة، وضع الأمور على المحك، وعرّض جميع اللوحات إلى المساءلة، والمعاينة والاختبار، كي يكتشف الجميع، لاحقاً، أنها لوحات مزورة، وعلى أحدهم أن يدفع الثمن.
عشر قضايا رُفعت ضد الدار، حُسمت تسعة منها من خلال تسوية بين الذين اشتروا الأعمال ودار نودلر. إلا أن مدير شركة "توم فورد"، دومينيكو دي سول، أصرّ على مواصلة دعواه القضائية، بعدما دفع ثمانية ملايين دولار (فقط!) ثمناً للوحة زُعم أنها لـ مارك روثكو، وكانت زوجته قد تحمّست لشرائها، كونها "عاطفية تجاه الفن"، وتحب اقتناءه.
تساؤلات كثيرة يضعنا الوثائقي أمامها، تتعلّق بالفن، وتحويله إلى سلعة، إلى مادة تجارية؛ إذ تُعامل هذه اللوحات كما لو أنّها وجبات يُعدّها مطعم ماكدونالدز، يتسابق الجميع على شرائها واقتنائها لتعليقها في بيوتهم أو مكاتبهم، أو مقارّ شركاتهم. تساؤلات حول قيمة العمل الفني، ومن أين يتّخذها، ولماذا هذه الأموال والأرقام الفلكية؟ تتألّف هذه الحكاية من قرابة 60 لوحة مزورة، بيعت بـ80 مليون دولار! نتساءل، أيضاً: هل يمكننا التعامل مع هؤلاء "المحتالين" كأبطال مضادين، أيضاً؟ أبطال مضادّون في سوق تتحرّك فيها الملايين وأصحابها كي يستعرضوا ويعرّفوا أنفسهم من خلال ما يمتلكون من سيارات وبيوت وشركات وساعات وبدلات.. وأعمال فنية! كان جاكسون بولوك يبادل لوحاته مع أصحاب الحانات كي يستطيع أن يشرب الكحول فيها من دون أن يدفع ثمناً مقابلاً. رحل الرجل في الخمسينيات إثر حادث سير، وها هي لوحاته تُباع وتساوي أرقاماً فلكية. في هذا السياق، نتذكر الفنان الفرنسي الطليعي مارسيل دوشامب، عندما وضع مبولة في صالة عرض وقلب الدُنيا حينها. اتّخذت هذه المبولة مشروعيتها الفنية من دلالتها، من كونها "مفهوماً"، وأصبحت تساوي الملايين.
تساؤلات كثيرة يضعنا الوثائقي أمامها، تتعلّق بالفن، وتحويله إلى سلعة، إلى مادة تجارية؛ إذ تُعامل هذه اللوحات كما لو أنّها وجبات يُعدّها مطعم ماكدونالدز، يتسابق الجميع على شرائها واقتنائها لتعليقها في بيوتهم أو مكاتبهم، أو مقارّ شركاتهم
في هذه السوق، يمكن للوحة روثكو المزورة أيضاً أن تساوي الملايين اليوم. لمَ لا؟ ألم تُثر هذه اللوحة جدلاً كبيراً هزّ السوق الفنية العالمية؟ ألم تُعرض في المحكمة أمام هيئة المحلفين، والقاضي، وخلقت خلافاً بين النقاد: هل هي موضوعة بشكلها الصحيح، أم أنّها مقلوبة رأساً على عقب؟