في صيف عام 2023، شهدت مدينة صيدا ولادة مبادرة ثقافية تحمل اسم "بشكير" أطلقتها مجموعة شبابية من سكّان المدينة. نشأت المبادرة بتحفيز من الشّابين عمر البساط ولين عون، وكلاهما يعمل في مجال التصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام. توسّع الفريق خلال بضعة أشهر، ليضمّ عدداً أكبر من شباب المدينة المهتمين بالشأن الثقافي والفني. "اخترنا اسم بشكير للدلالة على محلّية نشاطنا"، يقول عمر، فكلمة "بشكير" تركية الأصل وتعني "فوطة تنشيف"، وهو مصطلح درج على لسان الصيداويين منذ عهد العثمانيين.
"بشكير": قراءة ونقاش
الأشهر الثلاثة الأولى على انطلاقة المبادرة شهدت جلسات قراءات ونقاش تناولت مواضيع ذات أهمية، كأثر الاستعمار على المجتمعات، وتأثير التنظيم المدني على بنية المدينة الاجتماعية، وعلاقة الطبيعة بالاقتصاد، وتشكّل اللغة وتطوّرها. جميع حلقات النقاش جرت بالشراكة مع "فضاء إشبيلية الثقافي" في صيدا الذي يستضيف "بشكير" في قاعاته، إضافة إلى تقديم الدعم اللوجستي لأنشطة المبادرة.
يتابع عمر البساط: "مدينة صيدا بحاجة لتفعيل أكثر لمشهدها الثقافي، وأردنا من خلال بشكير أن نكسر فكرة أن مركزية بيروت هي التي تحتكر النسبة الأكبر من النشاط الثقافي في البلد". بذلك، غيّر عمر ورفاقه اتجاه البوصلة الثقافية التي تدلّ دوما نحو العاصمة، محوّلين المسار جنوباً. "كمبادرة جماعية، صار بإمكاننا دعوة الفنانين والمؤثّرين الثقافيين إلى مدينتنا للقاء المهتمين بالشأن الثقافي والفني في مدينتنا". أولى اللقاءات كانت بتاريخ الجمعة 19 يناير/كانون الثاني 2024 مع مخرج الأفلام الوثائقية اللبناني أديب فرحات، وعرض حول الأرشيف حمل عنوان "الأرشيف أداة مقاومة"، في إشارة إلى دور الأرشيف في مقاومة الاحتلال الصهيوني.
في فضاء إشبيلية الثقافي وبحضور عشرات من المهتمين، وخلال ما قارب ساعتين من الزمن، عرض فرحات مجموعة من الوثائق البصرية التي يعود تاريخها إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، قبيل الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان وما بعده وصولاً إلى ما بعد عام 2000 وتحرير الجنوب. بعض تلك المواد كانت صوراً لتصاريح عبور كان يصدرها الجيش الصهيوني ما قبل انسحابه من جنوب لبنان، متحكّما بحركة المواطنين اللبنانيين من سكّان المناطق المحتلّة؛ إذ كان يحدد تحرّكاتهم من قراهم وإليها ضمن فترات زمنية قصيرة. كما تضمّن العرض البصري وثائق تاريخية، من فلسطين ما قبل النكبة أثناء فترة الانتداب البريطاني، شاهدة على بدايات فرض استخدام اللغة العبرية لغةً ثانيةً في فلسطين كجزء من التأسيس التدريجي للأرضية التي آلت إلى خلق القومية اليهودية الصهيونية على أرض فلسطين.
الأرشيف البصري
يصف فرحات الأرشيف البصري بالشاهد على ممارسات الاحتلال، سواء كان من خلال التوثيق الفوتوغرافي أو من خلال مواد صحافية، وأخرى تشهد على نهج الاحتلال وممارساته القمعية مع أهل الأرض. في العرض، تطرّق فرحات إلى حساسية التعاطي مع الأرشيف بطرحه عدداً من الأسئلة حول كيفية التعاطي مع الوثيقة التاريخية، بدءاً بلماذا نجمع هذا الأرشيف بالدرجة الأولى ولأية غاية؟ أهو لخلق رصيد من الوثائق وعرضه أمام الناس كشواهد على مرحلة خلَت ومصدر معلومات، أم هو لخلق سرديّات مبنيّة على ما جاء في هذا الأرشيف؟ وتابع فرحات تساؤلاته حول المسؤولية الأخلاقية حيال التصرّف بالأرشيف والتفكير بنتائج نشره واحتمالات تأثيره سلباً على حياة بعض الأفراد أو المجموعات اليوم، وما إذا كان قد يعرّض حياتهم للخطر، بناء على كيفية قراءة الأرشيف وتأويل الروايات التي فيه.
أمّا السؤال الأخير، فيتعلّق بمصير الأرشيف: هل علينا تحويله إلى مادة متاحة للعموم، آخذين بعين الاعتبار حساسيته؟ بعد العرض، تحوّل مسار الجلسة لنقاش مع الحضور الذي تنوّعت مشاركاتهم ما بين الاستفسارات وبين مشاركة تجاربهم، لا سيما من هم من الجيل الذي عاصر فترة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. بهذا، تستعد مبادرة "بشكير" اليوم للتحضير للقاءات ونقاشات أخرى مع باحثين وفنّانين وفاعلين ثقافيين من لبنان، على أن يجرى ذلك بمعدّل لقاء واحد شهريّا.