جملةٌ مكتوبة في صفحةٍ فيسبوكية: "كما أنّ هناك مرحلة اكتئاب ما بعد الإنجاب، هناك أيضاً مرحلة اكتئاب ما بعد المونديال". جملة غير محصورة بسخرية مُضحكة، ففيها شيءٌ من واقعٍ، يعيشه معنيون/معنيّات بكرة القدم، تحديداً، رغم أنّهم يتابعون مباريات كثيرة وبطولات متفرّقة. بطولة كأس العالم، التي ينتظرها هؤلاء، وآخرون/أخريات ممن يهتمّون بكرة القدم مرّة واحدة كلّ 4 أعوام، أكثرها جذباً وحماسة. لذا، لن تبقى تلك الجملة حكراً على "نكتة" عابرة، فـ"الاكتئاب" (بمعنييه الإيجابي الساخر والسلبي المُقلِق) حاصلٌ لدى متابعي/متابعات "مونديال قطر" (النسخة الـ22، 20 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 18 ديسمبر/كانون الأول 2022)، من دون أنْ يبلغ (الاكتئاب) مرتبة الاضطراب النفسي/العصبي.
الاكتئاب المقصود يكاد يُصيب الجميع، بدءاً من مشجعي المنتخبات الخاسرة ومشجعّاتها، وهذا سابقٌ على المباراة النهائية، وصولاً إلى مُشجعي المنتخب الأرجنتيني ومشجعاته، رغم فوزه بالكأس في مباراته القاسية مع المنتخب الفرنسي. اللاحق على الختام يُثير شعوراً بفقدان شيءٍ مهمّ، يحسّ به الجميع في شهرٍ كامل، رغم تنامي حجم الشعور بالفقدان مع الهزائم اللاحقة بالمنتخبات، بدءاً من الدور الـ16. الأيام التالية للمباراة النهائية تكشف، أقلّه في أزقّة بيروتية قليلة، فراغاً شبه تام، مع أنّ مقاهي وحانات ومطاعم عدّة تستعيد شيئاً من حيوية سابقة على شهر المونديال، بشكلٍ أو بآخر، من دون أنْ تحتفظ بغليانٍ يعيشه روّادها والمارة في مباريات عدّة.
مفردة "اكتئاب"، بالنسبة إلى مرحلة ما بعد المونديال، مجرّد تعبيرٍ يُراد به سخرية وضحكاً وتسلية، أو ربما يهدف إلى قول شيءٍ من واقع وإحساسٍ. في سياقها هذا، تختلف كلّياً عن اكتئاب ما بعد الإنجاب. هذا معروفٌ. اختيار الجملة منبثقٌ من سؤال تُثيره الجملة نفسها، بشكلٍ غير مباشر: أهناك فيلمٌ يُمكنه إثارة شعور بـ"اكتئاب" ما بعد المُشاهدة؟ المقصود بالمفردة النفسية إيجابيٌّ، إذْ إنّ أفلاماً كثيرة تمنح مشاهداً/مشاهدة متعاً مختلفة، رغم قسوة أو ضغطٍ أو انفعالات حادّة في مضامينها وأشكالها وسرديّاتها، ما يؤدّي إلى نوعٍ من "اكتئاب" يلي المُشاهدة. فالبعض يسأل: ما الذي سيحصل لهذا أو لتلك، بعد الخاتمة؟ سؤال إنْ يتكرّر بشدّة ربما يصل بطارحه إلى قلق وهوسٍ، وربما إلى اكتئاب، بحسب البناء النفسي والعقلي والروحي والمعنوي لطارحه.
نهاية "العرّاب 3" (1990)، لفرنسيس فورد كوبولا، تُثير سؤالاً، فيه شيءٌ من قلقٍ، يكاد يتساوى و"اكتئاب" ما بعد الإنجاب والمونديال. إذْ قبيل موته، إثر مقتل ابنته ماري (صوفيا كوبولا) على يديّ موسكا (ماريو دوناتوني)، القاتل المأجور المكلَّف باغتياله، ينقل دون مايكل كورليوني (آل باتشينو) قيادة العائلة إلى ابن شقيقه، فنسنت (آندي غارسيا)، الذي يُصبح "العرّاب" الجديد. منذ بداية تسعينيات القرن الـ20، يُنتَظر دون فنسنت بشوقٍ يبلغ حالة من القلق، لغيابه الطويل. تُطرح تساؤلات: متى سيظهر؟ كيف سيُعلن للآخرين عن أنّه العرّاب الجديد لعائلة كورليوني؟ ماذا ستكون أفعاله؟ ما المدى الذي سيبلغه بطشه وعنفه ودمويته، أم أنّه سيكون أهدأ وألطف وأقلّ بطشاً وعنفاً ودمويّة من عمّه؟ تساؤلات مُقلقة، لن تدفع طارحها إلى اكتئابٍ، بقدر ما تجعل شوقه إلى المعرفة قاسياً، يُسبِّب أحياناً قلقاً وهوساً.
هذا مثلٌ واحد. أفلامٌ كثيرة تدفع إلى حالة كهذه. اختيار "العرّاب 3" متأتٍ من مشاهدة "العرّاب 1" (1972)، لكوبولا، في صالة سينمائية (إنّها المرّة الأولى) بنسخةٍ مُرمّمة، بمناسبة مرور نصف قرن على إخراجه ("العربي الجديد"، 6 مارس/آذار 2022)؛ إضافةً إلى مسلسل "العرض (The Offer)"، بإدارة المخرج البريطاني دكستر فلاتْشر، وكتابة الأميركي مايكل توكن (المنصّة الأميركية "باراماونت بلاس")، الذي يُزيد من حدّة القلق والهوس بالفيلم وشخصياته تحديداً، مع أنّه مكتفٍ بسرد تفصيلي لوقائع مختلفة، بين أول لحظة تفكير بتحويل الرواية (العنوان نفسه، ماريو بوزو، 1969) إلى فيلم، وصولاً إلى إنجاز الجزء الأول.
الهيام بفيلمٍ (أو أكثر) طبيعيّ. الهوس أيضاً، تماماً كأيّ هيام وهوس بأيّ شيءٍ آخر، وبأيّ أحدٍ أيضاً. السينما، ككرة القدم، ساحرةٌ. متابعة مسارات وشخصيات وحالات، وسماع حكايات ومعاينة تفاصيلها على شاشة كبيرة، مسائل تُؤثّر في نفوسٍ وعقول بدرجات متفاوتة، تبلغ عند البعض حالة القلق/الهوس.
السابق تمرينٌ على كتابة أخرى، متأتية من جملة فيسبوكية. لا تنظير فيها ولا تشاوف أو تصنّع، بل مجرّد تمرين متواضع. وضع لائحة أفلامٍ، تُثير قلقاً وهوساً وهياماً شخصياً، غير سهلٍ. كلّ فيلم (شخصية، حالة، موضوع) يُثير أنواعاً مختلفة من المشاعر والارتباطات به. الاكتفاء بـ"العرّاب" دون فنسنت كورليوني لن يُغيِّب آخرين وأخريات. إنّه مثلٌ واحد فقط. إنّه تمرينٌ على الكتابة.