قليلةٌ هي الأفلام التونسية والعربية، المنتجَة حديثاً، التي خلقت شخصيات عكست الشقاء والبؤس والحزن والقهر، في تفاصيلها كلّها، أو في بعضها على الأقلّ. تفاصيل يمرّ، أو مَرّ بها المواطن العربي: تشكيل شخصياتٍ تندمج، كلياً أو جزئياً، بأدوار تُظهر الشقاء بأشكاله وتفاصيله. هذا لن يكون، إلا إذا نُسِج السيناريو بدقة، والبناء مُتراص ومتلاحم ومُتفرّع، تُراعى فيه المنطلقات النفسية والفيزيائية، ودرجات تصاعد العواطف وتكاثفها وانفراجها. هذه عناصر أساسية ومهمة وضرورية، لتثبيت أركان الفيلم، خاصة إذا جمعتها لمسة إخراجية، ممن لديه تجربة عميقة في السينما والحياة معاً، وكلّها تساهم في خلق "اللامسافة" بين الفيلم والمُتلقي.
هذه منطلقات فنية، استطاع لطفي ناثان، المخرج الأميركي المصري الأصل، أنْ يُجسّدها في "حرقة" (2022)، المعروض في "نظرة ما"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي.
علي (آدم بيسه) يبيع الوقود المُهرَّب في الشوارع التونسية. يقيم في بيتٍ تابع لورشات البناء التي لم تكتمل. لكنّ حياته تتغيّر كلّياً، بعد انسداد الطرق أمام أخيه، المهتمّ بشقيقتيه بعد وفاة الوالد. يسافر الشقيق للعمل في أحد الفنادق، ويتركهما وحيدتين. يجد نفسه مُرغماً للعودة إلى البيت، ورعاية عليسة (سليمة معتوق) وسارة (إقبال حربي)، ويتحمّل مسؤولية لم يرغب فيها، خاصة أنّه غير اجتماعي، ويحلم بهجرة غير قانونية.
حلم بات مُهدّداً، بسبب معطيات جديدة، ومشاكل أقسى، بدءاً بمطالبة المصرف دفع أقساط البيت، وإلا فالطرد والمصادرة، خاصة أن عليسة وسارة لن تجدان مكاناً تلجآن إليه، لصغر سنّهما، وغياب من يحتويهما. علي لا يملك المال الكافي لتسديد أقساط المصرف. عندها، تتصاعد الأحداث، التي تُنتج معطيات سوداء مليئة بالتراجيديا، وتتسارع نحو بؤرة أحزان، تُلقي ظلالها سريعاً، بشكل أو بآخر، على المتلقّي، خاصة أنّها مصاغة بذكاء وحرفة.
هذه المعطيات تتصاعد أكثر، عندما يقرّر علي خوض المغامرة بنفسه. يُكلّف بقيادة سيارة تحضر الوقود المُهرّب من ليبيا، فما سيجنيه أكبر من بيعه في الشوارع ليدفع بعض أقساط المصارف. لكنّ الحظ العاثر يُحاصره مجدّداً، إذْ يطارده الحرس الوطني التونسي، فيترك السيارة بما فيها ويهرب، ويعود راجلاً إلى بيته. عندما يطلب مالاً من مديره، ينهره ويطرده، لتسبّبه بخسائر كبيرة له، فتتعقّد حياته أكثر، ويُقرّر أفعالاً لم يفكر فيها سابقاً، خاصة أن لا طريق سالكة في حياته.
بفضل أدائه دور علي، حصل آدم بيسه على جائزة "اليسر ـ أفضل ممثل" في الدورة الثانية (1 ـ 10 ديسمبر/كانون الأول 2022) لـ"مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي"، وهذا ليس غريباً أو مفاجئاً، بفضل أدائه. شخصياً، بعد المشاهدة، بحثت عن مرجعيته ومساره، فاندهشت لعدم عثوري على الكثير قبل عام 2017. قرأت حواراً معه، قال فيه إنّ التمثيل بالنسبة إليه هواية، فهو درس الحقوق، وأول عمل له في السينما كان بفضل المخرجة الجزائرية صوفيا جاما، في "السعداء" (2017). بعدها، بدأت مسيرته الفنية في أفلامٍ ومسلسلات عالمية.
استطاع بيسه، بتفاعله مع علي، حَمل الفيلم على كتفيه. لم يترك مجالاً للمتلقّي لاكتشاف الفاصل بين الشخصية الحقيقية والممثل. كأنّ ناثان، المخرج وكاتب السيناريو، رسم أبعادها وتفاصيلها انطلاقاً ممّا يعرفه عن ملامح الممثل وقدراته، إذْ توحّد مع آلام علي وأوجاعه ومآسيه، وبرع في عكس الشقاء، ولم يكتفِ بعكسه في تصرّفاته، بل أظهر هذا كلّه عبر ملامحه. لذا، يُمكن لأي مشاهد أن يرى كمية الحزن في وجهه وعينيه وتصرّفاته الغارقة في اضطرابات نفسية، تجلّت بوضوح في محبته للعزلة والصمت والكبت. اندمجت المعطيات النفسية والمظاهر البصرية في الشخصية، وتناسلت منها قوة تواصلية رهيبة، ساعدت في تسلسل القصة وبنائها.
رغم أنّه مبنيّ، أساساً، على القصة بشكلها الكلاسيكي، ظهر "حرقة" بمحمول جمالي قوي ومختلف، وبجماليات اكتشاف العادي، التي تظهر في التفاصيل الصغيرة المُصاغة بطريقة جيدة. مثلاً: كيفية جلب البنزين وبيعه، والابتعاد عن خلق الشخصيات المثالية، والالتحام بالواقع، وإسناد القصّة إلى معطيات مثبتة تاريخياً، وعكسها أو التجلّي معها بشكل أو بآخر، ليحسّ الجمهور بأنّ علي ليس إلا محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه أمام مقر الولاية في تونس، احتجاجاً على التهميش والأوضاع المأسوية الرهيبة التي عاشها ويعيشها كلّ تونسي، ومنها انطلقت الثورة في تونس، وطُرد النظام القديم.
كتب لطفي ناثان قصة، ورسم أبعاداً شخصية، بعد 10 أعوام على الثورة، تماثل في شكلها وخلفياتها الاجتماعية البوعزيزي. فعلي يحرق نفسه أمام الولاية، بعد أنْ ظُلم واعتُقل وسُحِل وضُرب من الشرطة، وبعد رفضه تقديم رشوة مقابل غضّ بصرها عنه، لممارسة مهنته غير القانونية في بيع الوقود المُهرّب. هذه مهنة يمارسها آلاف الشباب، حتّى أضحى الأمر كأنّه شكل قانوني. لكنّ علي قرّر، في ذاك اليوم، بعد أنْ حاصرته المشاكل، ألاّ يُقدّم الرشوة المعتادة، فوجد نفسه في حفرة عميقة، مليئة بالظلم والحزن والتعنيف، وقرّر الاحتجاج على طريقته البائسة: حرق نفسه أمام الولاية، فيُصبح البوعزيزي.
كأنّ "حرقة" يرسل رسالة قوية، تفيد بأنّ هناك الملايين الذين يشبهون البوعزيزي في تونس، والبلاد العربية، وينتظرون قطرة ستفيض بها كؤوسهم، ليرموا أنفسهم في النار.
"حرقة" فيلم سينمائي عربي، صيغ بشكل ذكي ومدروس. ورغم أنّه أول تجربة إخراجية للأفلام الطويلة، استطاع ناثان خلق نموذج جمالي مثالي، مُستعيراً في ذلك نوعاً من أنواع السينما الواقعية، التي تحفر عميقاً في مآسي الفرد وأحزانه، ليكون الفيلم بمجمله صرخة قوية في وجه الظلم والاستبداد، وملمحا من ملامح السينما التي تتغذّى وتقترب من أوجاع الطبقة السفلى، المليئة بالحكايات والأوجاع والصدمات.