عبارة "خارج الصندوق" هي ترجمة لـOut of the box التي تقترن عادة بالتفكير. أن يفكر الشخص "خارج الصندوق" يعني أن يرى الأمور بشكل مختلف عن السائد والمعتاد، وأبعد من الحدود. وOut of the Box هو العنوان الذي اختاره الفنان التشكيلي السوري علاء شرابي (1988) لمعرضه الذي افتتح في 21 فبراير/ شباط الماضي في غاليري أجيال في بيروت، ويستمر لغاية 25 مارس/ آذار.
الناظر إلى لوحات علاء شرابي لن يتمكن من تجاهل الصناديق والمكعبات التي تشكل العنصر الأساسي والوحيد فيها، ولن يتمكن من تجاهل الخطوط التي تشكل حدودها. كما سيلفتنا الفضاء الذي يحيط بهذه الصناديق والمكعبات. وبالتالي، مهمة التفكير، أو حتى النظر "خارج الصندوق"، غير ممكنة في هذا المعرض. فالفنان نفسه، من خلال الأسلوب الذي استعاره من تقنيات الحفر على الزنك (أو على أسطح معادن أخرى) وطوّره ثم طبّقه على لوحات الكانفاس، حرص أن تتنقل أعيننا من داخل الصناديق إلى خارجها، مروراً بالخطوط على تنوع حساسيتها.
يضم المعرض 35 لوحة مقسمة إلى مجموعتين. في الأولى (23 لوحة)، وهي المجموعة الأكبر من ناحية الحجم (قياس اللوحة الأصغر: 40 بـ30 سم والأكبر 175 بـ147 سم)، استخدم تقنيات الطباعة، ولكن على كانفاس بدل أسطح المعدن (زنك أو نحاس).
في لوحات هذه المجموعة، تسبح المكعبات والصناديق بقياسات متنوعة، بعضها يحتل اللوحة بأكملها، وفي أخرى تحتل المكعبات مساحة محددة أسفل اللوحة، كأبنية تصعد نحو سقف اللوحة أو سمائها الكوبالتية. هكذا، يستعيد شرابي من ذاكرته إطلالة منزله في منطقة المهاجرين، أعلى جبل قاسيون، أو مشهد قمة الجبل من أسفله.
تتحرك المكعبات في لوحات أخرى كأجسام ضائعة في الفضاء، تاركة المجال لمزيد من المساحات اللونية الصافية بإحدى درجات الرمادي المتحررة من الخط، مقلدةً بصفائها ونوعيتها المساحات الرمادية متعددة الدرجات التي يتم الحصول عليها عادة في أعمال الحفر بواسطة تقنية الأكواتينت (Aquatint). تتحول الدهشة عند المتلقي إلى صفاءٍ يتسلّل من المكعبات قبل أن تعود الخطوط - حدود المكعبات - وتعيده بحساسيتها للتركيز على دقتها باتجاهاتها العمودية والأفقية أحياناً، والمتلصصة من عمق المكعب إلى ظاهره، وأحيانًا تحضر كخربشات، أو زخات مطر، أو كاسم الفنان داخل صندوق.
باستثناء ثلاث لوحات ملونة بالأحمر الماغانتا والبرتقالي وأزرق الألترا مارين، استخدم شرابي في عدد من لوحات هذه المجموعة (8 لوحات) اللون الأسود ودرجات متعددة من الرمادي، وصولاً إلى الأبيض، أما في العدد الأكبر (15 لوحة) فأضاف اللون الأزرق الكوبالتي في سماء هذه الأعمال.
الأسود ودرجات الرمادي والأبيض هي الألوان الكلاسيكية المعتمدة في تقنية الحفر والطباعة، وهذا كان أول ما استعاره الفنان من الحفر ونقله إلى الكانفاس، ولكن ليس الوحيد، فاستعار شرابي التقنية كلها - وليس اللون فقط - ولكن طورها وعدلها بما يتناسب مع طبيعة سطح الكانفاس.
السبب الأول لنقله أو استعارته تقنيات الحفر إلى الكانفاس هو أن تقنية الطباعة تتطلب بطبيعة الحال توفر "المكبس" الذي يستخدم لكبس كليشيه الزنك/ النحاس، لطبع ما حفر في سطحه على الورق. وقد يكون عدم توفر المكبس بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة الجامعية - الذي توفره الجامعة عادة خلال الدراسة - هو العائق الأول أمام إنتاج هذه الأعمال. وبالتالي، بعد بحثٍ لا يبدو سهلاً، ابتكر علاء حلاً مركّباً وأكثر صعوبة من الحفر، يعتمد على حبيبات السّكر والغراء، كمادة عازلة يعاد في المرحلة الأخيرة غسلها تماماً. تسمى هذه الطريقة في الحفر والطباعة أكواتينت. وبدلاً من السكر، تستخدم مادة صمغية على شكل بودرة، تشكل عازلاً لا يتأثر بالأسيد الذي يغطس لوح المعدن فيه، ليأكل الأمكنة المكشوفة غير المعزولة. وللحصول على هذه الألوان بدرجاتها المتعددة وصفائها الثابت، تطلب الأمر رش الألوان المطلوبة بطبقات متعددة وصلت لـ19 طبقة في بعض الأحيان. وفي كل مرة، تُعزل مساحات محددة من الرمادي بالسكر والغراء، ويرش شرابي ما يريده أن يكون درجة أعلى من الرمادي وصولاً للأسود. وفي نهاية العملية المتعبة، تُغسل اللوحة ليذوب السكر ويظهر الشكل النهائي بدرجاته وخطوطه المتنوعة التي لن تخلو من المفاجآت.
أما مجموعة المعرض الأصغر في العدد وفي الأحجام (12 لوحة، قياس كل منها 10 في 10 سم)، فهي أعمال طباعة لينوغرافي أو Etching على ألواح اللينو. وحتى في هذه المجموعة، استعار الفنان بعض تقنيات الحفر على الألواح المعدنية وطبقها بطرقه "الملتوية" على ألواح اللينو.
عادة، في أعمال الطباعة، تطبع أكثر من نسخة (كلها أصلية، لأنها كلها مطبوعة مباشرة عن الكليشيه بعد التنظيف وإعادة التحبير في كل مرة)، ويسجل رقم النسخة ورقم النسخ النهائية التي ينوي الفنان طبعها (مثلًا 5/20، أي النسخة الخامسة من أصل 20 طبعة)، وبالتالي تكون محدودة الإصدار (وعادة يفترض إتلاف الكليشيه عند الانتهاء من طبع النسخ المنوي طبعها)، إلا أن شرابي لم يُرِد أن تكون لأي عمل أكثر من نسخة، وهذا قد يكون سبباً آخر دفعه إلى نقل تقنية الحفر إلى سطح الكانفاس، متفادياً إمكانية الحصول على أكثر من نسخة من العمل. وبالتالي لا نرى أسفل العمل الطباعي قرب توقيع الفنان ما يشير إلى رقم العدد والنسخ النهائية.
صناديق شرابي ليست مقفلة، بل مفتوحة على كل الاحتمالات البصرية. حتى قتامة سواد بعضها تدعونا إلى الدخول والبحث والتأمل والغوص، كأننا في بحر، والمكعبات ليست سوى أسماك تسبح فيه.
يستعير شرابي ويقلد، ولكنه لا يستعير من أحد ولا يقلد أحداً. هو ببساطة لا يقبل أن تفرض عليه التقنية العمل بمادة معينة تنحصر فيها وتحصره معها. كل التقنيات مُلك لحججه الفنية وللمواد التي يختارها، حتى بعد أن تتذلل الصعوبة، كصعوبة توفر مكبس. هذا الصندوق، صندوق تحديد المادة التقنية المناسبة لها أو المعتمدة، لا يمكن لشرابي العمل فيه. هو دائماً خارجه. ويبدو أنه كلما نظر وفكر خارج الصندوق، زاد دهشة المتلقي، خاصة المهتمين بتقنيات الطباعة.
يشار إلى أن علاء شرابي خريج كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، حيث درس الفن التشكيلي والحفر، وتخرج عام 2015. له معرض فردي سابق أقيم عام 2015 في غاليري "تجليات" في بيروت، وشارك في العديد من المعارض الجماعية في تايوان والأردن وموسكو والإمارات وكندا وتركيا وإيطاليا وألبانيا ولبنان وسورية، بين عامي 2012 و2020، إضافة إلى مشاركته في ورش عمل فنية في إيطاليا والشارقة ودمشق بين عامي 2007 و2018. وحالياً، يقيم في الإمارات العربية – الشارقة، حيث يدرّس الحفر والطباعة في مؤسسة الشارقة للفنون.