يحتلّ روبوت الدردشة ChatGPT حالياً المساحة الكبرى من النقاش على الساحة التكنولوجية والأكاديمية والثقافية والاقتصادية. فقدراته أثارت هلع كبرى الشركات التي باتت تخشى المنافسة، كما دقت جامعات ومدارس ناقوس الخطر، خوفاً من اتكال التلاميذ الكامل في أعمالهم الدراسية على هذا الروبوت القادر على الإجابة عن أسئلة علمية وأدبية واقتصادية بطريقة مبسطة ومتقنة.
لكن خلف النجاح والانتشار المبهر، تقف قصة أخرى، لا تُروى، هي أصل النجاح في هذه التجربة. هذه القصة ليست مشرقة، ولا ملهمة، بل هي قصة استغلال، تشبه مختلف الحكايات المرتبطة بشركات التكنولوجيا. روبوت ChatGPT تدرّب على مئات المليارات من الكلمات المأخوذة من الإنترنت بكل ما تتضمنه من تحيز وعنصرية وعنف جنسي... لذا اتفقت "أوبن إيه آي"، مالكة الروبوت، مع شركة توظّف كينيين لتحليل عشرات الآلاف من المقتطفات النصية، بهدف فلترتها.
وبالفعل قام هؤلاء العمال بتحليل مختلف الكلمات التي تلقّنها الروبوت، وفلتروا وحذفوا الكلمات المسيئة المرتبطة بالاعتداء الجنسي على الأطفال، والقتل، والانتحار، والتعذيب، وإيذاء النفس، وفق تحرير أجرته مجلة تايم الأميركية. لكن ما هي هذه الشركة؟ وأين المشكلة في التعاون معها تحديداً؟ "ساما" شركة مقرها سان فرانسيسكو توظف عمالاً في كينيا وأوغندا والهند لتصنيف البيانات لشركات مثل "غوغل" و"ميتا" و"مايكروسوفت"، وتسوّق نفسها على أنها شركة "ذكاء اصطناعي أخلاقي" وتزعم أنها ساعدت في انتشال أكثر من 50 ألف شخص من براثن الفقر. لكن بحسب تحقيق لـ"تايم"، فإن الشركة دفعت لمصممي ومحللي البيانات الذين وظفتهم ما بين 1.32 دولار ودولارين فقط في الساعة، اعتماداً على الأقدمية والأداء.
واطلعت "تايم" على مئات الصفحات من مستندات "ساما" و "أوبن إيه آي" الداخلية، بما في ذلك كشوف رواتب العمال، وأجرت مقابلات مع أربعة من موظفي "ساما" الذين عملوا في المشروع وطلبوا إخفاء هوياتهم.
وتقدم قصة عمّال ChatGPT الكينيين لمحة عن الظروف السائدة في هذا الجزء غير المعروف من صناعة الذكاء الاصطناعي، رغم أنه يلعب دوراً أساسياً في الجهود المبذولة لجعل أنظمة الذكاء آمنة للاستهلاك العام. فـ"على الرغم من الدور التأسيسي الذي يلعبه هؤلاء المتخصصون في إثراء البيانات، تكشف مجموعة متنامية من الأبحاث عن ظروف العمل غير المستقرة التي يواجهونها"، بحسب تحالف "الشراكة حول الذكاء الاصطناعي"، وهو تحالف من منظمات الذكاء الاصطناعي التي تنتمي إليها "أوبن إيه آي".
معاناة موظفي "ساما" مع المحتوى السام
لا تكشف "أوبن إيه آي" عن أسماء الشركات الخارجية التي تتعاون معها، لكن متحدثاً باسمها أكد في بيان أن موظفي "ساما" في كينيا ساهموا في أداة كانت تبنيها لاكتشاف المحتوى السام، والتي أُدمجت في نهاية المطاف في ChatGPT. وأضاف المتحدث أن "تصنيف النصوص والصور الضارة وتصفيتها يُعدان خطوة ضرورية لتقليل كمية المحتوى العنيف والجنسي الذي تتضمنه البيانات التي يتم تلقين الروبوت إياها، إلى جانب المساعدة في إنشاء أدوات يمكنها اكتشاف المحتوى الضار".
وقال الموظفون الأربعة الذين قابلتهم المجلة إنهم تعرّضوا لآثار نفسية مدمّرة بسبب العمل نتيجة البيانات التي عملوا على فلترتها، إذ إن أغلبها يتضمن محتوى عنيفا بشكل مطلق أو جنسيا عنيفا. على الرغم من أنه كان يحق لهم حضور الجلسات مع مستشارين نفسيين، إلا أن الأربعة قالوا إن هذه الجلسات كانت غير مفيدة ونادرة.
وقال اثنان إنهما لم يُمنحا سوى خيار حضور الجلسات الجماعية، وقال أحدهما إن طلباته بمقابلة المستشارين بشكل فردي رُفضت مراراً وتكراراً من قبل إدارة "ساما". وقال متحدث باسم "ساما" إنه "من الخطأ" أن يكون للموظفين حق الوصول إلى الجلسات الجماعية فقط، وإن الموظفين يحق لهم الحصول على جلسات فردية وجماعية مع "معالجين نفسيين مدربين تدريباً مهنياً ومرخصين"، وأضاف أن هؤلاء المعالجين يمكن الوصول إليهم في أي وقت. ودفعت الطبيعة المؤلمة للعمل "ساما" إلى إلغاء جميع أعمالها في "أوبن إيه آي" في فبراير/شباط 2022، أي قبل ثمانية أشهر من الموعد المخطط له.
تفاصيل عقود "ساما"
تُظهر الوثائق التي راجعتها مجلة تايم أن شركة أوبن إيه آي وقّعت ثلاثة عقود بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 200 ألف دولار مع شركة "ساما" في أواخر 2021، لتصنيف الأوصاف النصية للاعتداء الجنسي وخطاب الكراهية والعنف. وعلى الموظفين أن يقرأوا ويصنفوا ما بين 150 و250 مقطعاً نصياً في كل دوام عمل مدته تسع ساعات. ويمكن أن تتراوح هذه المقتطفات من حوالي مائة كلمة إلى أكثر من ألف كلمة. وذكرت العقود أن شركة أوبن إيه آي ستدفع أجراً بالساعة قدره 12.50 دولاراً لـ"ساما" مقابل العمل، وهو ما يتراوح بين ستة وتسعة أضعاف المبلغ الذي يأخذه الموظفون في المشروع في الساعة.
وكان الوكلاء، وهم أصغر واضعي البيانات الذين يشكلون غالبية الفرق، يتقاضون راتباً أساسياً قدره 21 ألف شلن كيني (170 دولاراً) شهرياً، وفقاً لثلاثة من موظفي "ساما". وحصلوا أيضاً على مكافآت شهرية تبلغ قيمتها حوالي 70 دولاراً نظراً للطبيعة الواضحة لعملهم. ويمكن أن يتوقع الوكيل الذي يعمل في نوبات لمدة تسع ساعات أن يأخذ 1.32 دولار على الأقل في الساعة بعد حسم الضريبة، وترتفع إلى 1.44 دولار في الساعة إذا حقق جميع أهدافه. ويمكن لمحللي الجودة، وهم كبار العمّال الذين كانت وظيفتهم فحص عمل الوكلاء، أن يأخذوا ما يصل إلى دولارين في الساعة إذا حققوا جميع أهدافهم.