هل كان يقصد القائمون على إنتاج مسلسل "الاختيار 2"، الذي عرض في رمضان الماضي، أن يُظهروا جانب نظام ما بعد الانقلاب وقوات الأمن الخاصة به، على أنه جانب الحق والخير، وأن الآخرين من المعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة المعارضين للانقلاب على أنهم الشر المطلق؟ لو افترضنا أن هذا كان الهدف من إنتاج المسلسل، الذي تكلف نحو 100 مليون جنيه، فهل تحقق ذلك؟
سؤال آخر يطرح نفسه في هذه المناسبة: لماذا لم يُقدِم الطرف الآخر على إنتاج عمل فني يوثق المذبحة التي وُصفت بأنها "جريمة القرن"، ويقاوم الرواية الفنية المزيفة "الوحيدة" التي قدمها نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من خلال الجزء الثاني من مسلسل "الاختيار"؟
كثير من النقاد والمتابعين، وحتى المشاهدين أنفسهم، رأوا في العمل الذي كرست له كل الأجهزة الأمنية المصرية- بدءًا من المخابرات العامة وهي الجهة المنتجة من خلال ذراعها الفنية شركة "سينرجي"، مروراً بالقوات المسلحة من خلال جهازها الدعائي "إدارة الشؤون المعنوية" التي توفر الدعم اللوجيستي لفريق التصوير، وانتهاءً بوزارة الداخلية، وتحديداً "إدارة العلاقات العامة" التابعة لها- رأوا أنه لم يحقق الهدف المنشود منه، بل على العكس فإنه رسخ سردية المذبحة التي ارتُكبت ضد المعتصمين.
ورأى كثيرون، أيضاً، أن العمل الذي عُرض بعد نحو سبع سنوات من المذبحة، جدد التعريف بالجريمة والدماء التي سالت والتي عرضت على الهواء مباشرة، ونقلتها كل وسائل الإعلام العالمية.
لم يخف مسلسل "الاختيار 2"، رغم أنها دراما مزيفة بامتياز، مشاهد سفك الدماء وحرق الجثث والأحياء، بل قدمها خلال إحدى حلقاته على أنها أعمال بطولية تستحق التكريم. ويبدو أن ما شجع على ذلك، هو غياب أي سردية مخالفة لما عرضه النظام المصري على شاشات التلفزيون، إذ إن النظام كان مطمئناً إلى أنه لا توجد جهة واحدة داخلية تعرض رواية مضادة، بعد أن أغلق واحتكر كل المؤسسات الإعلامية الداخلية. أضف إلى ذلك، أن عرض المسلسل جاء في ظل إغلاق منابر إعلامية خارجية معارضة، بناء على اتفاقات سياسية.
كرس النظام كل جهده وماله لملف الدراما التلفزيونية، خصوصاً في شهر رمضان، حيث استعان بجيش كامل من الفنانين والفنيين وكتاب السيناريو والمخرجين، وعيّن عليهم لجاناً لمراقبة ما يكتبونه، حتى يخرج المنتج النهائي الدرامي حسب رؤية النظام. رصد النظام المصري لهذه الأعمال الفنية ميزانيات مفتوحة، وأكدت مصادر من داخل المجموعة المتحدة المملوكة للمخابرات العامة، والتي تقوم بإنتاج المسلسلات الرمضانية، أن نحو 3 مليارات جنيه صُرفت على المسلسلات، إلى جانب جهود المؤسسة العسكرية والشرطة، حتى يتم إنتاج هذه الأعمال، التي هي في معظمها أنتجت لتزييف التاريخ، وصناعة أساطير وبطولات خارقة تسبغها على الجيش والشرطة، وتحويل وقائع إجرامية، كجريمة فض رابعة، إلى معارك مقدسة، كما حدث في مسلسل "الاختيار 2"، وهو المسلسل الذي رأى كثيرون أنه يكرس حالة الانقسام المجتمعي، ويعمق الاستقطاب والخصومة بين أبناء الشعب الواحد.
ولكن، على الرغم من مرور سبع سنوات كاملة على مجزرة القرن في ميداني رابعة والنهضة، ووجود كثير من الشهود الأحياء على مئات القصص الواقعيّة من داخل المذبحة، لم يقدم الوسط الفني المعارض للانقلاب أية أعمال فنية توثق الحدث الأعنف في التاريخ الحديث، فلماذا؟
الناقد الفني المصري إلهامي سعيد، يجيب عن هذا السؤال، مؤكداً أن هناك ممثلين وفنانين وكتاب دراما، وحتى مخرجين، غادروا مصر بعد المذبحة، لكن أحدًا منهم لم يفكر في إنتاج عمل واحد، يجسّد مذبحة القرن. وفسر سعيد ذلك بقلة الإمكانات المتاحة لإنتاج عمل بهذه الضخامة التي شاهدناها في مسلسل "الاختيار 2" الذي قام ببطولته كل من النجم كريم عبد العزيز والنجم أحمد مكي إلى جوار نجوم آخرين.
وقال سعيد لـ"العربي الجديد" إن إنتاج مثل هذه الأعمال يحتاج إلى إمكانيات ضخمة، مثل المركبات والمعدات العسكرية والتي وفرتها دولة السيسي لصناع مسلسل "الاختيار 2"، كما أنه يحتاج إلى أماكن تصوير مشابهة لمواقع الأحداث في ميداني رابعة العدوية في مدينة نصر، والنهضة في الجيزة، وهو ما لا يتوفر خارج مصر، إضافة إلى المجاميع والممثلين الثانويين "الكومبارس"، وكل ذلك تكلفة ضخمة لا تقدر عليها جهة واحدة.
ويوضح سعيد في هذا السياق، أن مسلسل "الاختيار 2" صرف عليه نحو 100 مليون جنيه، معظمها أجور فنانين، إذ تقاضى كريم عبد العزيز 20 مليون جنيه، بينما حصل أحمد مكي على 17 مليون جنيه، إضافة إلى معدات التصوير وغير ذلك من وسائل الإنتاج. لكننا لو نظرنا إلى المعدات التي وفرتها وزارة الداخلية والقوات المسلحة، مثل المدرعات والطائرات وما إلى ذلك، فسنجد أن الكلفة الحقيقية للمسلسل هي أضعاف ذلك الرقم.
في الوقت، ذاته يؤكد الناقد المصري الشاب، أن إنتاج عمل مشابه "فنياً" لمسلسل "الاختيار 2"- والذي يرى أن مستواه الفني "جيد" من حيث الإنتاج- ليست مهمة مستحيلة، فهناك الآلاف من المصريين المعارضين للنظام في الخارج، من الممكن أن يكتتبوا من أجل إنتاج عمل فني ينتصر لحق شهداء المذبحة، خصوصاً أن كل تفاصيل المذبحة متاحة وموثقة بالصورة وبالصوت، وبشهادات الناجين وعائلات الشهداء والأطباء والمسعفين والمعتصمين أنفسهم.
إمكانية إنتاج عمل من داخل مصر يقدم رؤية مغايرة لرؤية النظام عن المذبحة مستحيلة في الوقت الحالي، إذ التزم صناع الدراما الصمت منذ فترة طويلة
أما عن إمكانية إنتاج عمل من داخل مصر، يقدم رؤية مغايرة لرؤية النظام عن المذبحة، فيراها إلهامي سعيد مهمة مستحيلة في الوقت الحالي، مشيراً إلى أن كل الكتاب والفنانين وصناع الدراما التزموا الصمت منذ فترة طويلة.
وضرب سعيد مثلاً بالمخرج عمرو سلامة، الذي رفض عمليّة الفضّ بالقوّة، وسجّل موقفه في قوله: "احفظوا أسامي من قالوا قول الحق، ولُعِنوا من الطرفين، ستحتاجونهم يوم تملأ آثار الدم الشوارع ولا تجدون من يمسحها". لم يستطع سلامة أن ينفذ أفكاره على أرض الواقع من خلال عمل فنّي يُجسِّد قناعاته، وذلك بسبب الأجواء الفاشيّة ضد جميع المنتمين لثورة يناير من الفنانين، والتي لا تسمح بإنتاج عملٍ فنّي يخالف رؤية النظام.
وأشار إلى أن حتى بعض الأعمال الفنية الأخرى صودرت ومنعت من العرض في التلفزيون المصري، لمجرد أن الأبطال ليسوا من المدافعين عن نظام 30 يونيو/حزيران، مثلما حدث مع مسلسل "أهل الإسكندرية" للسيناريست بلال فضل، الذي مُنِع عرضه بأوامر أمنيَّة، وبالتالي لم يتبق على الساحة سوى "الاختيار 2".
و"الاختيار 2: رجال الظل" هو مسلسل تلفزيوني مصري عرض في شهر رمضان لعام 2021، من بطولة كريم عبد العزيز وأحمد مكي، من إخراج بيتر ميمي وتأليف هاني سرحان.
المسلسل الذي تناول "مجزرة رابعة العدوية" هو الجزء الثاني من مسلسل "الاختيار" الذي عُرض في عام 2020، وكان من بطولة أمير كرارة وأحمد العوضي، ومن تأليف باهر دويدار وأخرجه أيضًا بيتر ميمي، وتناول الهجوم على كمين "البرث" في سيناء.