بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
قلّما حظي كاتب بأن يكون النجاح حليفاً له في كل ما سعى إلى إنجازه في حياته المهنية، مثلما تنعّم بذلك إحسان عبد القدوس. كان نجماً في الصحافة، سطع مع أول مقالة وقّعها باسمه، وظل متألقاً حتى آخر مقالة. وكان رائداً في كتابة الروايات التي لقيت أرحب رواج في مصر والعالم العربي، ونالت إعجاب الجمهور بها عندما اقتُبست في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية.
درس الحقوق في جامعة القاهرة، وتخرج سنة 1942، لكنه لم يلبس روب المحاماة، بل سنّ القلم وكتب المقالات الصحافية. الغريب أنه لم يحلم بأن يكون ممثلاً، رغم كونه ابناً للنجمة المسرحية روز اليوسف، وللممثل القدير محمد عبد القدوس، الذي كان يعدّ بعض النصوص المسرحية. كان يرغب في أن يكون كاتباً مثل أبيه، وكانت أمه تريد أن يهتم بالصحافة ليساعدها. وكان أن استجاب لرغبة أمه. هي كانت مثله الأعلى. فاطمة اليوسف، الفتاة اللبنانية اليتيمة التي هاجرت إلى مصر وأصبحت نجمة المسرح الأولى ثم تقاعدت وأصدرت مجلة باسمها الفني "روز اليوسف". أيام الدراسة الجامعية نشر بعض المقالات في المجلة ووقّعها باسم مستعار "سونه"، وهو اسم الدلال الذي نادته به أمه.
تدرّب في مجلة "آخر ساعة"، ثم تعاقد معه ناشرها محمد التابعي، وبعد ثلاثة أعوام، انتقل إلى مجلة العائلة، وأصبح رئيس تحريرها سنة 1945. وكانت أول مقالة وقّعها باسمه بعنوان "هذا الرجل يجب أن يرحل" وفيها شنّ حملة على السفير البريطاني اللورد كيلرن لتدخّله السافر في الشؤون المصرية. فاستُدعي إلى المحكمة ومعه روز اليوسف الناشرة والمديرة المسؤولة. وراح كلٌّ منهما، الام والابن، ينسب لنفسه المسؤولية ليبرئ الآخر، لكن المحكمة قضت بسجن إحسان، وأُفرج عنه بعد أربعة أيام.
وفيما بعد أصبح من أبرز أعمدة الصحافة المصرية. وضمّ إلى المجلة أقلاماً من جيله أصبحت أعلاماً هي الأخرى، أبرزها أحمد بهاء الدين وفتحي غانم. وعرفت المجلة رواجاً كبيراً، وربحت جمهوراً جديداً من جيل الشباب. وانفردت بنشر تحقيقات صحافية جريئة، أهمّها السلسلة التي كتبها إحسان عبد القدوس حول فضيحة "الأسلحة الفاسدة" التي زُوّد بها الجيش المصري خلال حرب فلسطين عام 1948.
وبعد حريق القاهرة في يناير/ كانون الثاني 1952، طالبت "روز اليوسف" بضرورة إصلاح النظام الفاسد برمّته، لكنها شدّدت على أن كل تغيير من غير طريق الديمقراطية يؤدّي إلى دكتاتورية. وأصبحت المجلة "صوت المعارضة الصارخ"، على إيقاع مقالة إحسان "رئيس الوزراء الذي لا يَفهم شعبَه لن يُكتَب له البقاء". وقد ساهمت هذه المقالات ومثيلاتها بأقلام زملائه في تهيئة الرأي العام المصري لقبول التغيير السياسي الذي حدث بعد أشهر.
كان من الطبيعي أن تؤيد المجلة حركة "الضباط الأحرار" لأنها كانت واعدة بالتغيير، مع المطالبة الصريحة بوجوب الالتزام بالدفاع عن الحريات الأساسية، وعن النظام البرلماني، والشفافية في البرنامج السياسي للنظام الجديد، والحذر من تسلل الانتهازيين. وفي سلسلة مقالات بعنوان "كيف نريد أن تُحْكَم مصر"، اقترح إحسان عبد القدوس أن تتحول حركة الضباط إلى حزب سياسي، بعد أن يستقيل الضباط تماماً من الجيش، ويشكّلون تنظيماً سياسياً مدنياً.
وعندما كتب إحسان عبد القدوس مقالة "الجمعية السريّة التي تحكم مصر" انتقد فيها مجلس قيادة الثورة على القرارات التي تُتّخذ بسرية تامة ومن دون مناقشة عامة، احمرّت أعين المسؤولين واعتبروا مثل هذه المقالات غير مرحّب بها. لكن المجلة ظلّت تنتهج خطة المعارضة البنّاءة، من دون تأييد منافق للسلطة ولا هجاء مغرض.
وفي مطلع عام 1956 أصدرت الدار مجلة "صباح الخير" وهي نقدية اجتماعية، أصبحت توأم "روز اليوسف" في ميدان الصحافة. كان شعارها "للقلوب الشابة والعقول المتحررة"، قد صاغه أحمد بهاء الدين الذي تولّى مهمّة رئيس التحرير. وإلى جانب تحقيقاتها التي ناقشت قضايا حياتية تهمّ الناس، حفلت المجلة بالعديد من الرسوم الكاريكاتورية. وعلى صفحاتها نشر الرسامون الشباب إبداعاتهم، وجلّهم أصبح من أعمدة هذا الفن، وعلى رأسهم صلاح جاهين.
حين ماتت فاطمة اليوسف سنة 1958، شعر إحسان بأن ظهره انكسر. فَقَدَ سنداً كبيراً. اقترح أن تتحول المؤسسة إلى شركة مساهمة يملكها هو وأخته والصحافيون والعاملون في الدار، لكن لم يُكتب للاقتراح أن يرى النور. وفي أول لقاء معه، في بيروت، سنة 1971، أخبرته بأنه سبق بذلك هوبير بوف مدير مؤسس جريدة "لو موند" الفرنسية الذي أنجز مشروعاً مماثلاً قبل عام، فتنازل عن ملكية الجريدة وأصبح مساهماً فيها مع سائر العاملين، ابتسم إحسان وقال "حسناً.. احكِها للذين يقولون إننا نسرق الأفكار من الأجانب". وسألته "هل صحيح أنه هو الذي طالب بتأميم المؤسسة؟" أجابني بقوله "وبقيت المؤسسات الإعلامية الأخرى على أن تكون ملكاً مشتركاً للدولة والعاملين". أكملت متسائلاً "ألم تندم؟"، فقال "لا. أصلاً كنت متعباً من أعباء الإدارة ومن المشاكل مع الرقابة. آلت ملكيتها للدولة وبقيتُ رئيساً لمجلس الإدارة ست سنوات". أخبرته بأنني كنت مدمناً على قراءة "روز اليوسف" و"صباح الخير" ومعجباً بكتاباته وبمقالات بهاء الدين وفتحي غانم ورسوم صلاح جاهين. واندهشت حين أكد لي إحسان عبد القدوس أن رئيسين تخرجا في الأربعينيات في مدرسة "روز اليوسف"! سألت: من الأول؟ قال: "أيامها كان الضابط الشاب أنور السادات، وفي السبعينيات أصبح رئيسَ الجمهورية". سألته من الثاني؟ أجاب: "سليم اللوزي، رئيس تحرير مجلة "الحوادث". كان ظريفاً، يقول لي أحياناً "نحن الطرابلسية" كأنما ليذكّرني بأنه من مدينة الوالدة".
نجح إحسان عبد القدوس في الصحافة، في دار روز اليوسف، ثم لدى تولّيه رئاسة تحرير "أخبار اليوم" وقد نُقل إليها سنة 1966، وبقي في منصبه، مع رئاسة مجلس الإدارة حتى 1974، فانتقل بالصفتين إلى "الأهرام" ثم كاتباً متفرغاً من 1976 وحتى وفاته سنة 1990. كان ينشر مقالة سياسية أسبوعية في "الأهرام" بعنوان "على مقهى في الشارع السياسي"، وكانت جريدة "النهار" البيروتية تنشرها أيضاً.
الصحافي اللامع كان في الوقت نفسه روائياً موهوباً، ينشر رواياته مسلسلة في مجلة "روز اليوسف". وكانت لهذه الروايات والقصص القصيرة شعبية فائقة النظير. كان نشْر إحدى رواياته يرفع توزيع المجلة بأعداد مذهلة: "أنا حرة" و"الوسادة الخالية" و"الطريق المسدود" و"شيء في صدري" و"لا تطفئ الشمس" وسواها. وعندما صدرت في كتب، كانت الأكثر مبيعاً. ومعظمها اقتبس في أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية وإذاعية، وكلها نال إعجاب القراء وجمهور المشاهدين. وكان إحسان عبد القدوس يتقاضى أعلى أجر من دور النشر ومن شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني.
بعض هذ الروايات لم يَرُقْ للسلطة. إذ نقل محمد حسنين هيكل إلى إحسان عبد القدوس امتعاض الرئيس جمال عبد الناصر من تفاصيل رواية "البنات والصيف" التي تعطي صورة سلبية وفاضحة عن المجتمع المصري. فسطّر إحسان رسالة إلى الريّس يشرح فيها أنه كاتب تعكس رواياته طبيعة الحياة الاجتماعية والعاطفية، كما تنتقد مقالاته نقاط الضعف في الحياة السياسية. وقال إنه قبل الثورة كتب مقالات نارية بشأن الأسلحة الفاسدة، وكان في الوقت نفسه ينشر روايته "النظارة السوداء" مسلسلة وهي تصوّر مجتمع المتمصّرين تصويراً صريحاً جريئاً. وإنه بعد الثورة نشر الرواية الوطنية "في بيتنا رجل" كما نشر الرواية العاطفية مثل "لا أنام".
وإذا كانت روايات إحسان عبد القدوس المنشورة في الصحف قد نجت من مقص الرقيب، فإن بعض الأفلام المقتبسة من رواياته تعرّضت لحكم الرقابة القاضي بتعديل خاتمة الفيلم لتنسجم مع التقاليد السائدة في المجتمع ومعايير الأخلاق، حتى لو كان ذلك على حساب البناء الدرامي للرواية. وعندما سألته عن رأيه في ذلك أجابني "ليست الرقابة فقط. طبعاً الرقابة متزمتة جداً. لكن المخرجين من جهتهم يحبّون الختام الملتهب المثير". ثم سألني هو "وأنت خريج معهد السينما، ما هو فيلمك المفضل بين الأفلام المقتبسة من رواياتي؟" ومن دون تردد أجبته "فيلم (في بيتنا رجل) والرواية أيضاً" فابتسم وعلق "فيلم رائع.. بركات أستاذ".
في سنة 1971 أعلن المنتج السينمائي المصري رمسيس نجيب أنه مقبل على إنتاج فيلم سينمائي، بعدما اشترى حقوق رواية "الخيط الرفيع" من مؤلفها إحسان عبد القدوس، وأنه كلّف الفنان التشكيلي والكاتب يوسف فرنسيس بكتابة السيناريو والحوار، واتفق مع فاتن حمامة على أن تتولى بطولة الفيلم الذي سيعلن عودتها إلى السينما المصرية بعد غياب، والذي سيكون من إخراج بركات. ورشّح محمود ياسين لدور البطل. ثارت ثائرة صبحي فرحات المنتج السوري المقيم في مصر، لأنه يملك حقوق إنتاج هذه الرواية سينمائياً، وفي حوزته العقد الموقّع من المؤلف الروائي نفسه؛ وقرر أن يلجأ إلى القضاء لمنع أي جهة أخرى سواه من إنتاج الفيلم، وللادّعاء على إحسان عبد القدوس، كونه باع الرواية مرتين! وريثما يصدر حكم القضاء، باشر صبحي فرحات الخطوات الأولى لإنتاج الفيلم. كلّف الكاتب المصري بكر الشرقاوي، المقيم في بيروت آنذاك، بكتابة السيناريو والحوار، وتعاقد مع المخرج عاطف سالم الذي جاء إلى بيروت، وعقد جلسات مع كاتب السيناريو، واتفق مع سعاد حسني لتقوم بدور البطولة.
حكمت المحكمة لصالح صبحي فرحات، لكن رمسيس نجيب وإحسان عبد القدوس ربحا حكم محكمة الاستئناف، فتراجع صبحي فرحات ودارت الكاميرا وعُرض فيلم فاتن حمامة. ولما سألت إحسان عبد القدوس كيف ربح الدعوى، أجابني: "استندنا في الدفاع إلى مبدأ قانوني فحواه أن المنتج يشتري حقوق تحويل الرواية إلى فيلم، لكي ينتجها فعلاً. صحيح أن صبحي فرحات اشترى الحقوق لكن السنوات مرّت ولم ينتج الفيلم، فأصبح من حقي بيع الرواية لمن ينتجها فعلاً. وإلا فمن الممكن أن يشتري منتج أو ناشر كل أعمال الروائي ولا ينتجها فيلماً ولا ينشرها كتاباً، بل يحبسها في أدراجه. وبهذا يقضي على الكاتب، ويمنعه من بلوغ القراء والمشاهدين".
في العام التالي طلبتُ من إحسان عبد القدوس الإذن لتحويل روايته "ثقوب في الثوب الأسود" إلى مسلسل تلفزيوني. كنت تقدمت بالاقتراح إلى "شركة التلفزيون اللبنانية" وقد رحّبت إدارة البرامج بالفكرة، لأن اسم إحسان ورقة رابحة تسهّل تسويق المسلسل. وكانت الظروف الفنية متوافرة: الشخصيات الرئيسية أفراد عائلة لبنانية تعيش في باماكو عاصمة مالي، مع الطبيب المصري، الذي يمكن أن يؤدي دوره نجم مصري مشهور، الأمر الذي يرفع قيمة المسلسل التسويقية. وفرحتُ للغاية عندما وصلتني رسالة من إحسان عبد القدوس يعرب فيها عن موافقته. ولم تدم الفرحة طويلاً، إذ تعثّر المشروع بعدما وجدت إدارة التلفزيون تكاليف إنتاجه مرتفعة، لأن الأحداث تقتضي التصوير في أفريقيا.
لم يجادل أحد في شأن رواج روايات إحسان عبد القدوس، لكن بعض النقاد اعتبرها تجارية فنياً أيضاً. وأيّا كانت الآراء، فمن المؤكد أن له فضلاً على الرواية العربية، عبر اجتذاب قرّاء جدد، أصبحوا يقرأون رواياته وروايات غيره.