مشوار فني طويل امتد أكثر 50 عاماً، قضاه المخرج جلال الشرقاوي (1934 ــ 2022) متنقلاً ما بين شاشة السينما وخشبة المسرح. اليوم طويت الصفحة الأخيرة من هذه الرحلة مع رحيل الشرقاوي عن 88 عاماً، متأثراً بإصابته بفيروس كورونا.
واجه المخرج خلال حياته عراقيل عدة كان يُصر على أن يتخطاها بقوة شخصيته وإيمانه بأنه "خُلق ليحلم". فخلال طفولته أصيب بحمَّى التيفود وهو لا يزال في السابعة من عمره، لذلك تأخر عن الالتحاق بالمدرسة، إذ كان يتلقى العلاج في منزله في القاهرة. لكن ذكاءه الفطري، جعله بعد انتهاء العلاج مباشرة، يجتاز امتحاناً مدرسياً التحق على أثره مباشرة بالسنة الثانية للمرحلة الابتدائية.
في عمر صغير أحب الشرقاوي المسرح بكل تفاصيله: من الخشبة إلى الكواليس والإضاءة والديكور. وهو ما دفعه إلى إبلاغ والده برغبته في الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية. لكن الأب رفض مشترطاً أن يحصل ابنه أولاً على شهادة جامعية مختلفة. وهو ما حصل، فالتحق بكلية العلوم، وتخرج وعمل، مدرِّساً للكيمياء لمدة 3 سنوات. خلال هذه الفترة كان قد بدأ الدراسة كذلك في معهد الفنون المسرحية، وانطلقت مسيرته كممثل في بعض المسلسلات الإذاعية. لكن طريقه الأكاديمي لم ينتهِ هنا، بل حصل كذلك على دبلوم خاص في التربية وعلم النفس من جامعة عين شمس، ثم حصل على بكالوريوس من معهد الفنون المسرحية، ونال شهادة في الإخراج من مقعهد "جوليان برتو" للدراما في فرنسا عام 1960.
أطلّ الشرقاوي كممثل من خلال أدوار مختلفة في بعض الأفلام منها "أمهات في المنفى" (1981)، و"خلي بالك من عقلك" (1985)، وكان على اقتناع تام أن الممثل تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة وسط مجتمعه بسبب شعبيته وتأثيرها الكبير على الجمهور، "لذلك لا بد أن يؤمن بأنه يؤدي رسالة".
قدم الشرقاوي نفسه أيضاً كمخرج سينمائي من خلال 4 أعمال، هي أفلام "أرملة وثلاث بنات" (1965) و"العيب" (1967) و"الناس اللي جوه" (1969) و"أعظم طفل في العالم" (1972). وكانت له تجربة واحدة في السينما اللبنانية وهي فيلم "إلى أين؟"، لكن ككاتب قصة وسيناريو بينما أخرج الشريط اللبناني جورج نصر.
استبعد جلال الشرقاوي من العمل السينمائي بقرار سياسي من الرئيس السابق جمال عبد الناصر، وهو ما تطرق له في حوار صحافي قال فيه: "سبب لي فيلم (العيب) للكاتب يوسف إدريس مشاكل كثيرة، وكانت فيه مشاهد تعبِر عن الفساد، وفي مشهد وضعت صورة للرئيس جمال عبد الناصر، وكانت بطلة الفيلم تعاتب أحد الأبطال الذي يصلي ولا تفارقه المسبحة، وسألته كيف يمارس كل هذا الفساد وهو رجل صالح ورئيس إدارة، وهنا لعبت صورة عبد الناصر دوراً، إذ تنوعت اللقطات بين وجه الممثلة والممثل وصورة رئيس الدولة وقتذاك، وهو ما اعتبره المسؤولون إسقاطاً على عصر عبد الناصر، واتهاماً مباشراً له بأنه مشارك في الفساد، وكانت تلك كارثة بالنسبة لي، وأمر ثروت عكاشة الذي كان وزير الثقافة وقتها بحذف هذه المشاهد، وكانت مدته نحو 17 دقيقة، وهي أهم مشاهد تلخص محتوى الفيلم ورسالته. هذا بالطبع أزعجني جداً، لأن الفيلم خرب بهذا الشكل، ووقتها كنت أصوِّر فيلم (الناس اللي جوه)، وتركني المسؤولون حتى انتهيت من إخراجه بالكامل، وبعدها سمعت أنني استُبعدت من العمل في السينما نهائياً بقرار سياسي، وإذا كانت الدولة قرَّرت تجميدي سينمائياً، فمن المؤكد أن منتجي القطاع الخاص لن تكون لديهم الجرأة للتعامل معي، وهكذا تم إعدامي سينمائياً".
وعلى الرغم من عمل جلال الشرقاوي كممثل ومنتج ومخرج سينمائي، إلا أنه ما أن يذكر اسمه تقفز إلى الواجهة تجربته في الإخراج المسرحي. إذ أخرج عدداً كبيراً من العروض منها "مدرسة المشاغبين"، و"دينا حبيبتي"، و"دنيا أراجوزات"، و"كوتش"، و"أنا متفائل تصور"، و"حودة كرامة"، و"قشطة وعسل"، و"الجنزير"، و"دستور يا أسيادنا"، و"الخديوي"، و"تتجوزيني يا عسل"، و"بحبك يا مجرم".
وكان رائداً في المسرح السياسي، إذ قدم مسرحيتين عن حرب أكتوبر هما "شهرزاد" و"عيون بهية"، كما قدم مسرحية "ع الرصيف" التي كشف فيها عن أوجه السلبيات والإيجابيات في العصور الرئاسية الثلاثة لجمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك. وقدم نموذجاً في الكباريه السياسي من خلال عرض "عطية الإرهابية". ومن خلال مسرحية "عفاريت مصر الجديدة" تحدث عن الاستخبارات، وتطرق لقصة الصراع السياسي بين السلطة العسكرية والسياسية في مسرحية "ملك الشحاتين".
وواجه الشرقاوي أزمة كبيرة مع مسرحية " دستور يا أسيادنا" التي كانت تدور أحداثها حول مواطن بسيط من الشعب رشح نفسه في الانتخابات أمام حسني مبارك باسمه وصورته. وقتها حاصر الأمن المركزي المسرح، وأغلق المسرح.
وعمل الشرقاوي أيضاً في الإنتاج من خلال عمل واحد فقط هو "موعد مع القدر" (1987)، وكان من بطولة نبيلة عبيد ومحمود ياسين ويسرا.
في السنوات الأخيرة دان في الكثير من تصريحاته واقع الفن المصري، فقال إن "الفن حالياً يخاصم الواقع المعاش"، كما وصف المسرح بـ"الهزلي"، وخص بالنقد وقتها "مسرح مصر" الذي يقدمه الفنان أشرف عبد الباقي، مشدداً على أن مثل هذا النوع من المسرح يجب ألا يرتبط اسمه بمصر.
تلقى الشرقاوي تكريمات عدة، فحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون، وشهادات تقدير من جهات رسمية في مصر، مثل الجيش ووزارة الداخلية، وتكريم من أكاديمية الفنون. وكان التكريم الأخير في "مهرجان الإسكندرية المسرحي العربي" عام 2019.