رشيد بوشارب (1/ 2): "أستخدم مهنتي السينمائية لأثير قضايا تمسّني"

23 أكتوبر 2024
رشيد بوشارب: أنا أحقّق أفلاماً فقط (ستيفان كادرينالي/Getty)
+ الخط -

رشيد بوشارب مخرج فرنسي من أصول جزائرية. في أفلامه يتناول مواضيع قوية تهزّ المفاهيم والأفكار المسبقة عن الهجرة والاستعمار الفرنسي والتمييز العرقي والعبودية. رائد تيارٍ ظهر في فرنسا بداية ثمانينيات القرن الـ20، ولفت النظر ثقافياً إلى الوجود المغاربي في المجتمع الفرنسي. مؤلّف سينمائي ومنتج، حقّق 15 فيلماً روائياً طويلاً يستكشف معظمها، بنظرة مجدّدة، صدمات الاستعمار.

فيلمه المشهور "السكان الأصليون" (2006) عن مساهمة الجنود الأفارقة في حروب الجيش الفرنسي. أما "الخارجون عن القانون" (2010)، فعن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، عبر تقاطع مصائر ثلاثة إخوة مُقتَلَعين من جزائرهم، مع مصير أمة تناضل من أجل حريتها. بينما يتطرّق "نهر لندن" (2009) إلى أثر اعتداءات "11 سبتمبر" (2001) على حياة أناس عاديين من أديان مختلفة. ويطرح "السنغال الصغير" (2001) آثار ما بعد العبودية.

تتساءل أفلامه عن تأثير التاريخ على المصائر والهويات. يعتبر أنّه أعطى وجهاً للتاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وبقية المستعمرات. لكنّ هذا لا يمنعه من نزهات قصيرة، كما يقول، بين حين وآخر، إلى مواضيع أخرى، أخفّ.

شارك بوشارب في الدورة الـ12 (4 ـ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2024) لـ"مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي"، للتحدّث عن تجربته السينمائية في "ماستركلاس" أداره الناقد والباحث السينمائي الجزائري أحمد بجاوي.

في هذه المناسبة، حاورته "العربي الجديد".

 

(*) تتّسم سينماك بأنّها إنسانية وسياسية، تتناول مواضيع جادة: الاستعمار، الهجرة، العبودية. متى تقرّر إثارة موضوع ما بعينه؟

بدأت بمسألة الهجرة، ثم أخذت بسرد قضايا عرفتها في شبابي. حياة والديّ مثلاً، والتزامهما حركة التحرير، ومعايشتهما الاستعمار. أستوحي قصص العائلة، التي تقودني من موضوع إلى آخر. بدا لي مُهمّاً أنْ أثير ما عشته لسهولته، ولتوفّر شهادات مباشرة من دون بذل جهد. كنت أشعر بنفسي مرتاحاً لتحقيق أفلام عن مواضيع خبرتها، وكنت قريباً منها.

 

(*) هل يتعلّق الأمر أكثر بارتياحك لهذه المواضيع وسهولة معالجتها، أم لأهميتها بالنسبة إليك؟

بالتأكيد، يُشكّل تناولها بالنسبة إلي سهولة وارتياحاً. لكنْ السينما ليست لعمل مناشير سياسية، ولا مقالة في جريدة. الفن السينمائي يهمّني أولاً، وقوة هذه القضايا تجعل منها مادة سينمائية بامتياز. كما أنها لم تكن تُطرح آنذاك إلا قليلاً في فرنسا. مواضيع، كأبناء المهاجرين وحرب الجزائر وغير ذلك، كانت غائبة رغم صلاحيتها للمعالجة سينمائياً. طرحتها في "الخارجون عن القانون".

 

(*) أنت الآن تُعتبر دعامة هذه السينما في فرنسا، وأول من أثار هذه القضايا.

نعم. كان الوضع حينها مختلفاً. كنت تقريباً الوحيد في مدرسة السينما من أصول شمال أفريقية. كان هناك أيضاً مهدي شارف، الذي تعود أصوله مثلي إلى "مغنيّة"، المنطقة الواقعة على الحدود الجزائرية ـ المغربية. كان عدد الممثلين من ذوي الأصول العربية قليلاً جداً حينها. لم تكن الأسس الفنية لكلّ الأصول المهاجرة مبنيّة بعد.

عندما التقيت فرقة "كارت دو سيجور" (بطاقة إقامة)، ولعلّك تعرفينها، ومعهم رشيد طه، شكّلنا نواة هذا الجيل، الذي بدأ يظهر معاً، وتدريجياً، ويقول إنّه موجود. إنّه اليوم مع نجومٍ عديدين مثله.

 

(*) نجوم نعم، وأنت أحدهم الآن.

أنا أحقّق أفلاماً فقط، يُمكن القول إنّها باتت أهمّ اليوم بعد انتشارها في العالم. أفلامٌ عن العبودية وحرب فيتنام والهجرة الجزائرية إلى فرنسا. إنّها المرة الأولى التي يُعرض فيها هذا النوع في فرنسا والعالم. أثارت اهتماماً بهذا الماضي عن الجزائر والاستعمار. كنت أمشي في درب خالية. عندها، بدأ البناء، وظهر ممثّلون في موازاة هذا، وكذلك كتّاب وموسيقيون. بدأنا معاً، وتابع كلٌّ في فضائه، مع التقائنا طبعاً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) هل يمكن وصف ما جرى بأنّه تيار أو موجة؟

نعم. كانت مرحلة خرج فيها أبناء المهاجرين من وضع حُبِس فيه آباؤهم، لينطلقوا في منحى آخر، ويتطوّروا في المجال الفني. إنّما لزم للممثلين وقت أطول لفرض النفس. أو بالأحرى لجعل الجمهور يتقبّل وجوهاً مختلفة عما يألفه. لكنّهم ما لبثوا أنْ وصلوا، بفضل هذه الطاقة. تجمّعت العوامل التي تُتيح وجود أعمال كأعمالنا. كان ضرورياً لها أنْ تنوجد.

 

(*) قياساً إلى هذه الحركة الفنية أو الموجة، كيف ترى الوضع حالياً في فرنسا؟

هناك تراجع في ما يخصّ الهجرة. حين يُقال إنّ تلك لم تحقّق شيئاً لفرنسا، فهذا خاطئ تماماً. يُمكننا رؤية ما حقّقه المهاجرون اقتصادياً لبناء فرنسا بعد الحرب. كانوا يُحضَرون أفواجاً عبر المراكب للمساهمة في البناء وتغذية مصانع، كـ"بيجو" و"رينو" و"سيتروين". ساهمت عائلتي في بناء اقتصاد فرنسا. بعدها، حلّت الرياضة، فوُجِد مهاجرون في اللعبة الأكثر شعبية، محقّقين مع زملائهم كأس العالم (بطولة العالم 1998 ـ المحرّرة).

يجب ألّا نسهو عن ذلك. أعطى الفوز حينها أملاً، وانطلق الشعار "أسود، أبيض، زبدة" (تعبيراً عن المكوّنات العرقية لفرنسا، المحرّرة)، وسرى إحساسٌ بأنّ شيئاً ما سيتمخّض عن هذه الحماسة والإنجازات. ساد الأمل. اليوم، انقلب الحال وتقهقر. بل انهار كلّ شيء.

 

(*) لكنْ، سينمائياً، نرى فنانين من أصول عربية أكثر فأكثر في السينما الفرنسية. بهذا المعنى، أليس هناك تطوّر ما؟

حصل التطور منذ نحو عشر سنوات، إذْ توفرت مساحة لمواضيع مغايرة تُحكى، ووصل ممثّلون، كسامي بو عجيلة وجمال دبوز ورشدي زم، وظهر في الموسيقى الشاب خالد، وجميع هؤلاء نجحوا نجاحاً كبيراً.

 

(*) هل يعني هذا أنّ السياق الفني تابع مسيرته وتطوّره، على عكس الاجتماعي؟

لا أرى لمَ لا يكون بوسعه المتابعة. كلّ ما يقال عن الهجرة في فرنسا، والنقاش في الأوساط السياسية، لن يوقف هذه المواهب، أو يعوق تقديم الجديد: طاهر رحيم وليلى بختي وغيرهما مثلاً. لا يُمكن اليوم صنع فيلم في فرنسا عن مجتمعٍ لا يمثّل الواقع. إنّه يفرض نفسه على السينما، ويجب أنْ نُريه كما هو. سابقاً، كنّا نبدي باستمرار صورة سلبية، فالمغاربي هو المجرم الذي تبحث عنه الشرطة في فيلمٍ بوليسي، وهو ما يحصل مع السود في السينما الأميركية. في فرنسا، حرّكنا هذه الصورة، ولم يعد مُمكناً إعطاء المغاربي هذا الدور السيئ.

 

(*) في حوار قديم معك، تقول وإنْ كنّا ولدنا في فرنسا، فكلّ يوم نُذكَّر بانتمائنا إلى المهاجرين. هل لا تزال تشعر بهذا اليوم؟

بل أسوأ. الأمور تنقلب، وتسود أوضاع جديدة مردّها مواقف السياسيين. السياسة تقود في هذا الاتجاه، وتضع قضية الهجرة في المركز. هناك خلطٌ في المفاهيم، وعدم فصل بين الهجرتين القديمة والحديثة. مضى على القديمة أكثر من 70 عاماً، ومنها جيل والدي. اليوم، تصريحات السياسيين تخدم مصالحهم، وهم يدّعون أنّ المهاجرين يُحوّلون فرنسا في العمق. لكنّي لا ألمس هذا. حين نعبر قراها وبلداتها، لا يمكننا القول إن تغييراً عميقاً أصاب الشعب الفرنسي. هذه مواضيع تُستَغلّ وتعاد إلى الواجهة.

 

(*) بما أنك أشرت إلى السياسة، أغتنم الفرصة لأسألك عن تواقيع فنانين ومثقفين فرنسيين، وبعضهم من أصول عربية، لإدانة العدوان على غزة، أو المطالبة بوقف إطلاق النار. لكنّي لم أجد اسمك في أيّ منها. ما ردّك؟ أأنت ضد توقيع العرائض مثلاً، أم لديك موقف آخر؟

لم أكن في فرنسا، والأمر ليس هكذا. أنا أصنع أفلاماً عن الاستعمار و...

 

(*) (مُقاطعة) نعم، لكنّ الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

صحيح. لكنّ تناولي موضوع الاستعمار دليلٌ كاف بحدّ ذاته، كما فعلت في "الخارجون عن القانون": الشخصيات تختار الحرية، وتعمل لنيل الاستقلال.

 

(*) نعم، في ما يخصّ الموقف عامة من الاستعمار. لكنّنا لم نقرأ لك تصريحات حتّى...

تصريحات؟ كلا. أستخدم مهنتي، أي الفيلم، لأثير قضية الاستعمار. هنا، بِمَ يتعلق الأمر؟ بفلسطين، التي يتوق شعبها إلى دولة، وهذا منذ 1948. نعلم أنّ هناك مشكلة. بالنسبة إليّ، هذا مُشابه للاستعمار الفرنسي، الذي عمل الشعب الجزائري على إنهائه، والحصول على استقلاله وتحرّره.

 

(*) تُفضّلُ إذاً التعبير عبر فنّك.

عبر أفلامي عامة. حين ترين أفلاماً كـ"الخارجون عن القانون" و"السكّان الأصليّون"، تُدركين نظرتي وأفكاري.

المساهمون