أبت أم كلثوم أن يبدأ العام الجديد، إلا مصحوباً بتذكير غربي استثنائي، ينبه من غفل أو نسي أو ضل سمعه في زحام الصخب: أنا هنا، لا أسقط من ذاكرة العالم.
هكذا تكلمت أم كلثوم، في حديث افتراضي، ملأ الصحف ومواقع التواصل منذ إعلان مجلة Rolling Stone الأميركية، أخيراً، قائمتها لأعظم مئتي مطرب في العالم خلال قرنين، والتي وضعت سيدة الغناء العربي في المرتبة الحادية والستين. مرتبة أثارت كثيراً من الجدل بين جمهور أم كلثوم في العالم العربي، خصوصاً السمّيعة الكلاسيكيين منهم؛ إذ يرى أكثرهم أن كل ترتيب لا تحتل فيه كوكب الغناء الموقع الأول، هو محض عبث لا يستحق الاهتمام فضلاً عن الاحتفاء. بطبيعة الحال، هذه النظرة ليست موضوعية، إلا أن عشّاق الست في مصر والعالم العربي، لا يرون فيها إلا صوتاً وشخصيةً عليهما أن يحتلّا المرتبة الأولى دائماً.
لكن معرفة ظروف التصويت وقواعده، قد تخفف كثيراً من حدة هذا الموقف الرافض؛ فالمصوتون كلهم نقاد غربيون، وأغلبهم من الولايات المتحدة الأميركية، ليس من بينهم عربي واحد، كما أن جمال الصوت وعظمته لم يؤخذا في الاعتبار دائماً، إذ استند التصويت إلى معايير أخرى، تخص مدى التأثير والأصالة وطول الرحلة الفنية، وغزارة الإنتاج.. وهي معايير وضعت مايكل جاكسون بكل شعبيته وتأثيره العالمي الضخم متأخراً 15 رتبة عن أم كلثوم.
ومن المرجح أن تكون اتجاهات التصويت قد تأثرت بما يعرف بمعايير "الصوابية السياسية"؛ إذ من الصعب أن ننسب إلى المصادفات كون أول عشرة أسماء في القائمة هم من أصحاب البشرة السوداء، وهم جميعاً من أصحاب الشهرة في ما يعرف بـ"الموسيقى السوداء"، وهو مصطلح يطلق على الإنتاج الموسيقي والغنائي للمطربين والعازفين السود، مدعوماً بسردية تاريخية تُرجع هذا التفوق الفني إلى عصور الرق، حيث كان العبيد يلجؤون إلى الغناء ليعينهم على الأعمال الشاقة، وكذلك اتهام البيض بأنهم لا يتقنون فنون الرقص كما يتقنها السود، لأن أفريقيا هي موطن تلك الأشكال الحيوية من الرقص الاستعراضي.. وقد تتعزز هذه النظرة إذا انتبهنا إلى أن إريثا فرانكلين التي تصدرت القائمة؛ إذ كانت ناشطة مهمة في ميدان الحقوق المدنية والنسوية حتى رحيلها في أغسطس/آب من عام 2018.
يكتسب ظهور أم كلثوم ضمن قائمة مجلة Rolling Stone لأهم مئتي مطرب في تاريخ العالم الحديث والمعاصر أهميته من عدة عوامل، في مقدمتها أن المجلة والمصوتين وقواعد الاختيار تنسف تلك الأحاديث المتكررة عن محاباة السلطة، أو الإعلام لأم كلثوم، وأن هذه المحاباة والرعاية منحت السيدة مكانة استثنائية، وأضفت عليها هالة من القداسة للاستفادة منها سياسيا ودعائياً.
وهذا الموقف ليس إلا مجرد وهم تكرر على أقلام بعض رموز اليسار العربي، الذين تغافلوا عن أن شعبية أم كلثوم ومكانتها الكبيرة قد تكرست منذ أواخر العشرينيات، وأنها صارت "كوكب الشرق" ومطربة العرب الأولى في عهد الملك فؤاد الأول. هذا الامتداد الزماني، ومعه الانتشار المكاني، هو أحد أهم المعايير الغربية في اختيار قوائم المطربين "الأعظم".
ومن أهم ما يلفت الانتباه في قائمة Rolling Stone، أن أم كلثوم كانت الصوت العربي الوحيد الذي وقع عليه اختيار المصوتين. الصوت الوحيد من المطربين والمطربات، القدامى والمحدثين، الراحلين والمعاصرين، من بغداد شرقاً إلى طنجة غرباً، بأسمائهم الكبيرة، وشهرتهم الواسعة، خرجوا جميعا من تلك المنافسة، ولم يبق للعرب إلا أم كلثوم.
ذلك الكيان الضخم، بالغ التأثير في كل بقعة عربية، والذي يتيح للعرب أن تكون لهم قدم في هذا النوع من الاختيارات والقوائم، رغم تغير معاييرها واختلاف قواعدها، وأهم دلالات هذا التفرد أنه بالصوت، أو الأداء، أو التأثر، أو الانتشار الجماهيري، أو بالامتداد مكانياً وزمانياً، أو بالاستمرارية، أو بالتعبير عن الوجدان العاطفي أو الوطني أو الديني، ستبقى أم كلثوم هي الممثل الشرعي الأهم للغناء العربي أمام العالم.
في حيثيات الاختيار، قالت مجلة Rolling Stone إن أم كلثوم ليس لها نظير في الغرب. وهو وصف التصق بأم كلثوم منذ عقود، وقبل رحيلها بفترة ليس قصيرة؛ إذ رددته الصحف الغربية، ولا سيما بعد زيارة سيدة الغناء باريس وحفلاتها التاريخية على مسرح الأوليمبيا في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1967. كانت الدهشة الغربية كبيرة من قدرة أم كلثوم وسيطرتها الكاملة على جمهورها، وحالة التفاعل اللحظي بينها وبين هذا الجمهور، وكذلك قدرتها -رغم التقدم في السن- على الغناء لفترات طويلة، واستمرار الأغنية الواحدة لأكثر من ساعة. وأيضا قدرتها الفائقة على الوصول بالمستمع إلى أقصى درجات النشوة الفنية.
كما أشارت المجلة في حيثياتها إلى اشتراك الطبقات الدنيا من صوت السيدة مع الطبقات السفلى عند الرجل، وهي خصيصة لا تكاد تعرف في صوت غير صوت أم كلثوم؛ فهذه القوة، وهذا العمق الصوتي، كانا دوماً جزءاً مهماً من أسباب الاحترام الجماهيري الكبير الذي حظيت به أم كلثوم بين الجماهير العربية، لأن أداءها كان يظهر دائماً في صورة بالغة الفخامة والاستعلاء، كانت دائماً أقرب إلى الشيوخ والقراء والمنشدين منها إلى المغنيات. وكان العرض والعمق في قراراتها من أهم أسباب المسحة الدينية التي تلف صوتها وأداءها، لتمنحها درجة من الاحترام تقترب من القداسة.
وقد انتبهت مجلة Rolling Stone إلى هذه المسألة، حين وصفت أم كلثوم بأنها تكون أثناء غنائها مثل الواعظ أو الخطيب الذي يهيمن على جمهوره بخطب نارية.. كما تحدث المجلة في حيثياتها عن قدرة أم كلثوم على نقل حالة كاملة من المشاعر والعواطف العميقة والمعقدة إلى مستمعيها.
ليس سهلاً أن يدخل مطرب أو مطربة إلى قائمة المئة الأعظم في العالم.. وليس هيناً أن يكون دخوله إلى هذه القائمة عبر منظومة اختيار أجنبية، لا تعرف لغته، ولم يعش أعضاؤها المصوتون لحظات توهجه. وقد انقسم جمهور أم كلثوم حول الحدث، بين محتفٍ أسعده الاختيار، واعتبره تكريماً جديداً وتأكيداً على المكانة المستحقة لكوكب الشرق، وبين ساخط على المرتبة 61 التي يراها لا تليق بقدر سيدة الغناء. والحقيقة أن النظر العميق إلى سياقات التصويت، والمعايير التي استند إليها المصوتون، تصب في صالح المحتفين بمبدأ اختيار أم كلثوم، بغض النظر عن الترتيب.
وقد اشترطت المجلة أن يتسم إنتاج المطربين المختارين بالشعبية، ولذلك، استبعدت المغنين الأوبراليين جميعاً. وتبعاً لشرط الشعبية، أكد القائمون على عملية التصويت أن من الممكن أن يتقدم في الترتيب صوت أقل في إمكاناته وجماله على صوت أفضل.. لكن الجماهير العربية، منحت أم كلثوم الحب والاحترام لأجل صوتها أولاً وقبل أي عامل آخر.. لذا يمكن لكل الهائمين بصوت السيدة أن يكتفوا بالشرط الأساسي في تصويت Rolling Stone والذي يقول إن المغنين الموجودين في هذه القائمة قد اختيروا لسبب واحد هو أنهم "يمكنهم إعادة تشكيل العالم بمجرد فتح أفواههم".. تلك دلالة الاختيار.. فترتيب الـ61 لا يتقدم على تغيير شكل العالم.