في "زنقة كونتاكت"، أول روائيّ طويل له، يبحث المغربي إسماعيل العراقي (1983) عن ذاته، عبر خلطة من الأنواع السينمائية والأدوات والتقنيات، المتنقِّل بينها، لإيجاد أسلوب خاصٍ يميّزه. مهمّة لم تكن سهلة عليه، رغم جدّية المحاولة والاشتغال، إذْ انتهى الأمر بفيلمه هذا ليكون خليطاً عجيباً بعض الشيء، لتأرجحه بين أفلام عصابات وشوارع، بما فيها من عنفٍ وقسوة، واستخدام اللغة العامية السوقية، وأفلام الموسيقى الغنائية الغربية، تحديداً الـ"روك"، بتحدّياتها كلّها، وبما فيها من صخبٍ وغرابة بالنسبة إلى المُشاهد العربي.
تبحث شخصيات "زنقة كونتاكت" عن نفسها، محاولةً العثور على ذاتها وصوتها الخاص، تماماً كالمخرج، الذي أفضت محاولته التجريب النوعيّ إلى تشتّت أسلوبيّ، أثقل على الفيلم، وكاد يفسده تماماً، ويخلّ بتماسكه. فيه، أراد العراقي نقل قسوة عالم ومجتمع، وانحطاط مدينة (الدار البيضاء)، لكنّ الرسالة لم تصل، بسبب عدم وجود الكثير تحت السطح.
الانشغال بأسلوبيّة الفيلم، ومحاولات الخروج بأفضل توليفة شكلية ممكنة، تُرضي إسماعيل العراقي سردياً وبصرياً، لم تسفر عمّا يتجاوز المطروق، أو يحاول تجديده قليلاً، أو يهرب من أسر النمطية والقولبة والسطحية. مع ذلك، ورغم كلّ شيء، يُعتبر "زنقة كونتاكت" (بالمحليّة المغربية الدارجة، تعني، كما ورد في الفيلم، قتال الشوارع) محاولة جيّدة لتقديم جديد في السينما العربية والمغربية، والخروج قليلاً من إطار السياقات المعتادة، بصرياً وأسلوبياً.
رجاء (خنساء باطما) عاهرة شابّة، ذات ماضٍ قاسٍ للغاية، لم يترك لها غير احتراف البغاء. بعد تعرّضها لاغتصابٍ ذات ليلة، تبرّأ منها الأهل والأقارب والمجتمع، ووُصِمت بعارٍ أبدي. إلى احتراف الدعارة، أسلمها قدرها البائس لتكون ضحية هشّة للقوّاد المحترف سعيد (سعيد باي)، الذي يملك ورشةً لإصلاح السيارات ونادياً ليلياً، ويعمل في كلّ ما يدرّ عليه المال، إذْ يفعل المستحيل للحصول عليه. لسعيد أيضاً ماضٍ ملتبس، يتكشّف قبل نهاية الفيلم.
لارسن سنيك (أحمد محمود)، الشخصية الرئيسية الثانية، نجم موسيقى الـ"روك" ذائع الصيت عالمياً، في السابق. يعيش في سجنِ ماضٍ مؤلمٍ وشديد القسوة منذ طفولته، عندما رأى والده يقتل والدته، ويتبرّأ من جُرمه. لاحقاً، وقبل بلوغه سنّ الرشد، يقتصّ لوالدته من والده الفظّ. صوته الصادح مسجونٌ في حنجرته المعطوبة لإدمانه على الهيرويين. طريقته الوحيدة في التعبير عن نفسه وعمّا في داخله تتجلّى بهلوسات بصرية ناجمة عن إدمانه، ويغلب عليها طابع دموي، أو بمداعباته الاحترافية لغيتاره، المُغَلّف بجلد الثعبان، الذي أهدته إياه والدته عندما كان صغيراً، وصار صديق طفولته.
بعد مُغادرة رجاء أحد الفنادق، في نهاية ليلة عمل ستجعل حياتها جحيماً، تستقلّ سيارة أجرة، وتروي لسائقها نكتةً بذيئة عن سائق سيارة أجرة وحادث طريق، ثم يقع لهما الحادث نفسه. الاصطدام، المُفتَعل بركاكة كبيرة، أو ربما يكون الافتعال متعمّداً، يؤدّي إلى لقاء رجاء بلارسن، العائد من إنكلترا، بعد بيع حقوق أغانيه مقابل تسديد ديون القمار، ووعد بالسفر وعدم العودة مجدّداً. الصدفة تفعل فعلها: راكباً سيارة ليموزين تقلّه من المطار إلى مكان ما، يقع الاصطدام ويحصل اللقاء بينهما، وينجذب أحدهما إلى الآخر، ويشعر كلّ واحد منهما بحبٍّ إزاء الآخر. هذا يؤدّي إلى صراعٍ بينهما وبين سعيد، وغيره ممن سيُطاردهما.
رغم طوله المُفرط (125 دقيقة) ـ نسبةً إلى قصّة نمطية، وأحداثٍ معروفة نهايتها مسبقاً، ومن دون جديد أو بوادر انقلابٍ في الخطّ السرديّ للسيناريو (إسماعيل العراقي) ـ ليس "زنقة كونتاكت" فيلماً رتيباً أو مُملاً. رغم محاولاتٍ غير موفَّقة لإثارة الضحك، بين حين وآخر، بحوارٍ أو حدثٍ أو موقف، ليس الفيلم ثقيلاً. حتى موسيقياً، إذْ يُفترض بالأغنيات القليلة والموسيقى المستخدمة أن تُثقل عليه وعلى إيقاعه، لكنّ هذا لم يحدث أيضاً. كان يُمكن اختزال وحذف مَشاهد عدّة، ومنح الشخصيات مساحات صمت، وعدم الثرثرة كثيراً، والابتعاد عن استخدام مونتاج حاد بين بعض المشاهد. هذا لا يصلح استخدامه سينمائياً في أيّ فيلم، ولا اعتباطاً، ومن دون تبرير مُقنِع.
بقدرٍ كبير من التساهل والتسامح، يُمكن الاقتناع بالشخصيات، وتصديقها والتعاطف قليلاً مع واقعها وماضيها. بدورها، لم تُقدِّم الحبكة جديداً يخدم الشخصيات ويُبرزها ويُعمّقها، شخصياً وإنسانياً وعاطفياً ونفسياً، وهذا أضْعَف حلقات رسم الشخصيات النمطية. لعلّ الشخصية الوحيدة الناجية، إلى حدّ بعيد، من التنميط والعيوب، والنابضة حياةً ومصداقية، وذات أبعاد نفسية وتقلّبات صادقة، تبقى شخصية سعيد القوّاد. هذا يقود إلى الأداء التمثيلي، والتساؤل عن كيف يُمكن لحبكة مُستَهلَكة وشخصيات ضعيفة البناء أن يكون التمثيل فيها أهمّ وأقوى الجوانب.
جزءٌ كبيرٌ من نجاح شخصية سعيد، التي تُعتبر ثانوية مقارنة ببطلي الفيلم، يعزى إلى قوّة أداء رائع للممثل الموهوب سعيد باي، وإلى قدرته على التعبير في مختلف المواقف، ونقل المُراد من دون تكلّف أو افتعال، وسهولة الإقناع. أداء خنساء باطما ـ الفائزة بجائزة أفضل ممثلة في قسم "آفاق"، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ لافتٌ للانتباه، ومميّز بما فيه من اجتهاد كبير، نظراً إلى أنّ "زنقة كونتاكت" تجربتها السينمائية الأولى. المُثير للانتباه أنّ صوتها، المتألّق في أداء أغنية الفيلم في الختام، بجوارحها ومصداقيتها، مفاجئٌ، لا يقلّ عن جودة تمثيلها. أداء أحمد محمود جيّد أيضاً، إذْ اجتهد كثيراً لإبراز الجوانب الجدّية والكوميدية والعاطفية والمأسوية للارسن، ولحالات إدمانه أيضاً.