تقمص الشخصيات المستعارة أحد أهم أنماط التخفي التي يتبناها عملاء الأجهزة الاستخباراتية لأداء مهامهم، سواء على صعيد جمع المعلومات أو تنفيذ الجهد العملياتي الذي يتقرر وفق متطلبات الأمن القومي للدولة التي تتبعها هذه الأجهزة. وتدل الأدبيات الإسرائيلية والغربية والعربية على أن جهاز "الاستخبارات والمهام الخاصة" الإسرائيلي، المعروف بـ"الموساد"، يلزم عناصره العاملين في مجال جمع المعلومات وتنفيذ الجهد العملياتي بتقمص شخصيات مستعارة، لتحقيق أكبر قدر من التخفي، بهدف تحسين فرص نجاح العمليات التي يعكفون على تنفيذها.
وعلى الرغم من أن الكثيرين من عملاء وعميلات الموساد اشتهروا بطابع الشخصيات التي تقمصوها أثناء أداء المهام الاستخباراتية التي أنيطت بهم، فإن أحد أشهر هؤلاء كانت سيلفيا رفائيل التي تقمصت شخصية مصورة تعمل في وكالة أنباء فرنسية، ونشطت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عبر تنفيذ الكثير من العمليات الهادفة إلى جمع معلومات استخبارية ذات قيمة فائقة عن أطراف في حالة عداء مع إسرائيل، كمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً حركة فتح.
الكثير من الأدبيات تعرضت لسيرة رفائيل، منها كتاب "نساء الموساد" (The Mossad Amazons - The Amazing Women in the Israeli Secret Service)، لمؤلفيه الإسرائيليين عضو الكنيست السابق ميخائيل بار ـ زوهر والصحافي نسيم مشعال، إلا أن تقريراً نشرته صحيفة نيويورك تايمز، هذا الأسبوع، سلط الأضواء مجدداً عليها، بمناسبة تنظيم معرض في تل أبيب، عرضت فيه الصور التي التقطتها أثناء أداء عملها الاستخباراتي.
ولدت رفائيل عام 1937 في كيب تاون في جنوب أفريقيا، لأب يهودي وأم مسيحية، وهاجرت إلى الكيان الصهيوني في 1963، حيث عملت في التدريس في البداية، ثم جندها الموساد، فخضعت لدورة إعداد "المقاتلين"، وهي أعلى مستويات العمل الميداني داخل الجهاز، وضُمت إلى شعبة "العمليات" المعروفة بـ"قيساريا".
ونقلت "نيويورك تايمز" عن موتي كفير الذي كان قائداً لقسم إعداد العملاء في شعبة "العمليات"، وأشرف على تدريب رفائيل، أنها تمتّعت بمهارات اتصال فائقة. وأشار كفير إلى أنه تقرر تمكين رفائيل من تقمص شخصية مستعارة لتحسين قدرتها على العمل في بيئات جغرافية معادية، إذ جرى الاتفاق على أن تتخفى في شخصية مصورة صحافية، على اعتبار أن هذا يمنحها المبررات للدخول إلى مناطق ودول في حالة عداء مع إسرائيل بحجة تغطية صراعات. ووفقاً للصحيفة الأميركية، فقد خضعت رفائيل لدورة تصوير مكثفة، وطلب الموساد في أعقابها من رجل أعمال يهودي أوروبي التوسط لدى وكالة دالماس للأنباء في باريس، لاستيعاب رفائيل في صفوفها، بعد أن وفر لها الموساد جواز سفر فرنسياً.
جمعت رفائيل المعلومات الاستخباراتية من خلال عملها مصورة صحافية بين الأعوام 1965 و1971، في إريتريا والأردن ولبنان. وطلب الموساد من رفائيل، أثناء وجودها في الأردن، توثيق علاقتها بالملك حسين الذي دعاها بالفعل إلى زيارة قصره لتصويره وأفراد عائلته، وضمنهم نجله الأكبر عبد الله، الملك الحالي. وعلى الرغم من أن الموساد لم يسمح بنشر الصور التي التقطت داخل القصر الملكي خشية التأثير على العلاقات مع عمان، فإنه سمح بعرض صور التقطتها رفائيل للرئيسين المصريين السابقين جمال عبد الناصر وأنور السادات، لتكريس الانطباع حول قدرة الموساد على جمع المعلومات الاستخبارية عن الزعماء العرب. وأفادت "نيويورك تايمز" بأن الكثير من الصور التي التقطتها رفائيل لا تزال مصنفة على أنها "سرية للغاية" من قبل الموساد.
واستغلت رفائيل التصوير الصحافي واجهة لتصوير معسكرات التدريب التي دشنتها حركة فتح في الأردن في ستينيات القرن الماضي، وفي لبنان مطلع السبعينيات. ووفق ما أشارت إليه الصحيفة، فقد خطط الموساد لاستخدام رفائيل في تنفيذ عمليات اغتيال داخل لبنان لقيادات العمل الفلسطيني الفدائي. وعرضت "نيويورك تايمز" محضر لقاء جمع في عام 1968 كلا من رئيس الموساد مئير عميت ورئيس الوزراء في ذلك الوقت ليفي أشكول. عرض عميت على أشكول مخططاً لتصفية عدد من قادة الفدائيين الفلسطينيين الموجودين في العاصمة اللبنانية بيروت بواسطة رسائل مفخخة. وحسب المحضر، فقد أبلغ عميت أشكول أن عميلة تتقمص شخصية مصورة صحافية تعمل لصالح وكالة أنباء فرنسية ستكلف بنقل الرسائل المفخخة ووضعها في صناديق بريد في بيروت. مخطط عمليات التصفية هذا لم ينجح في النهاية، من دون أن توضح الصحيفة أسباب فشلها.
وانتقلت رفائيل بعد عام 1971 للعمل داخل أوروبا، حيث اعتقلت في 1973 من قبل الشرطة النرويجية، بعد مشاركتها في عملية اغتيال فاشلة استهدفت قائد العمليات الخاصة في حركة "فتح"، علي حسن سلامة. فبدلاً من أن يغتال فريق التصفية "كيدون" الذي كانت تشارك رفائيل فيه، سلامة، قتل عملاء الموساد شاباً مغربياً يدعى أحمد بوشيخي، كان يعمل نادلاً في مقهى في مدينة ليلهامر النرويجية. وقد حكمت محكمة نرويجية بالسجن لمدة 5 سنوات على رفائيل، لكن أطلق سراحها بعد 15 شهراً، وعادت إلى الكيان الصهيوني.
قصة رفائيل تكشف الدور الذي تلعبه النساء في الجهد الاستخباري والعملياتي الذي ينفذه الموساد. وفقاً لتقرير رسمي أصدره جهاز الموساد في أغسطس/ آب 2022، فإن 40 في المائة من العاملين فيه من النساء. وحسب التقرير نفسه، فإن 4 نساء يشغلن مواقع رئيسة في قيادة الجهاز.