- يعاني الفيلم من مشاكل في السرد والتقنية مثل الإطالة غير المبررة، الرتابة في التصوير، وبطء الإيقاع، مما يجعل متابعته غير مريحة ويفتقر إلى الجمالية والتأثير الفني.
- "شاي أسود" يسلط الضوء على محاولة استكشاف العلاقات بين ثقافات مختلفة لكنه يقصر في تقديم رؤية بصرية مقنعة ومتكاملة، مما يجعل العمل يفتقر إلى الجمالية والتأثير الفني المطلوب.
لن تكون أول مرّة في تاريخ السينما، وطبعاً لن تكون الأخيرة: أنْ يُنجز مخرجٌ عملاً أقلّ بكثير من أدنى مستوى جمالي يُمكن تحقيقه، وللمخرج أفلامٌ رائعةٌ، تأثيرُ بعضها (على الأقلّ) في المشهد السينمائي، فنّاً وجمالياتٍ وأسلوب اشتغال، فاعلٌ طويلاً. هناك من يُخرج فيلماً أقلّ أهمية من سابقه، لكنّ "الجديد" يمتلك، أحياناً، شيئاً من مقوّمات فنّ الصورة وتقنياتها وتفاصيلها، في مقابل خللٍ في المعالجة الدرامية، أو في اختيار قصة صالحةٍ لترجمة بصرية مفيدة وممتعة، أو في جمالية الترجمة نفسها، أو في انتقاء ممثلين وممثلات يصلحون لدور أو لآخر.
الموريتانيّ عبد الرحمن سيساكو (1961) أحد هؤلاء. فيلمه الأخير، "شاي أسود" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)" ـ مثلٌ على ذلك، رغم أنّ رغبته في أنْ ينفتح على ثقافات وحضارات، وفي أنْ يعثر على خطّ تواصل بينها، ماثلةٌ في خلفية صُور غير متمكّنةٍ من إبراز عمق التواصل والعلاقة، لفقدانها جمالية مُنجز بصري متكامل المعالم والمفردات.
ثقافات وحضارات مُدرجةٌ في النصّ السرديّ، وبعضها غير مُقنع لإقحامه عمداً، وبالقوة، في مسار ذاك النصّ السردي نفسه، كأنّ تظهر شخصية رجل خليجي، سيكون سعودياً بسبب مِنَح سعودية في تمويل الفيلم (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)، من دون أنْ يكون لتلك الشخصية أي تأثير أو فعالية أو حاجة. شخصية باهتة، مفروضة بقوة مالٍ غير كافٍ، أصلاً، لإنتاجٍ، تُشير لائحة جهاته إلى كمٍّ هائل منها، يصبّ كلّه في فيلمٍ ركيك ومُضجر وفاقدٍ لأي معنى مُفيد، سينمائياً ودرامياً وفنياً وجمالياً وتأمّلياً. شخصية تاجرٍ يبحث عن بضاعة (بعضها ملابس داخلية نسائية، يُصوَّر بطريقة نافرة بصرياً)، في سياق خارج كلّياً عن السرد الأصلي.
هذا يكشف مأزقين، يُعبَّر عنهما بسؤالين: ما سبب انحدار مخرجٍ كعبد الرحمن سيساكو إلى هذا البؤس السينمائي؟ ما هدف اختيار فيلمٍ كـ"شاي أسود"، فارغ ومُملّ وغير نافعٍ (رغم القليل الجميل والمهمّ فيه)، في مسابقة رسمية لمهرجان مُصنَّف فئة أولى؟
طرح السؤالين طبيعي، لكنّ الإجابة عنهما صعبةٌ، إنْ لم تكن مستحيلة، فانحدار مخرجٍ ربما يكون غير واعٍ، أو ربما ينبثق من حاجة إلى إنجاز، أياً تكن نتيجته السينمائية. والاختيار متأتٍ من عجز عن الحصول على الأهمّ والأفضل والأجمل، أو من "قناعة" لدى الإدارة الفنية للمهرجان، بـ"انفتاح على ثقافات وحضارات"، من دون تفكيرٍ بجودةٍ مطلوبة في فعل الاختيار.
لكنْ، كي تستقيم كتابة نقدية عن "شاي أسود"، يُفضَّل الابتعاد عن كلّ تفكير مرتبطٍ بسبب الانحدار وآلية الاختيار. جديد سيساكو، باختصار، مهلهلٌ ومرتبك، يتّضح أنّ إنجازه غير متوافق مع المعنى الذي يُريده المخرج في قراءة علاقاتٍ بين ثقافات وحضارات، وأنّ المُنجز النهائي خاضعٌ لنزوات إنتاجية غير مهتمّة بتحويل المشروع إلى فيلمٍ سينمائي.
لأنّها غير مرتاحة في بيئتها، الجغرافية (مدينة في ساحل العاج) والاجتماعية والحياتية، ما يدفعها إلى رفض الزواج ممن يطلبونه منها، وإنْ تُعلِن الرفضَ أمام الجميع، لحظةَ العرس، تُغادر آيا (نينا مِلو) مدينتها، وتسافر إلى "غوانْجو" (عاصمة مقاطعة "غْوِنغْدونغ"، في جنوبي الصين)، وتختار حيّاً يُقيم فيه أناسٌ من بلدها، وتعمل في محلّ لبيع الشاي، يملكه الصينيّ كاي (تشانغ هان). علاقة عاطفية تنشأ بينهما، بسلاسة وخفّة، قبل أنْ تنكشف أمورٌ عدّة، تحول دون إتمامها. كاي (45 عاماً) منفصلٌ عن زوجته، وله ابنة غير عارفٍ شيئاً عنها منذ سنين، وله ابنُ يلتقيه دائماً، وإنْ تكن بينهما مسافة. آيا (في منتصف ثلاثينياتها) تريد حياة هادئة ومُريحة مع من تُحبّ. فيها شيءٌ من حيوية عيشٍ، وعلاقاتها مع "ناس الحيّ"، أفارقة وصينيين، طيّبة وجميلة. كاي يريد، بدوره، هناءً وصفاء، ويرغب في حَلّ أمور عالقة في ماضيه. لكنْ، هناك مانعٌ يزداد حدّة، ومع ازدياد حدّته، تجد آيا نفسها مُرغمة على العودة إلى بلدتها.
ما يُفترض به أنْ يكون حكاية رومانسية بين اثنين، ينتمي كلّ واحدٍ منهما إلى ثقافة واجتماع وأنماط تفكير مختلفة (إنْ لم تكن متناقضة) عن ثقافة الآخر واجتماعه وأنماط تفكيره، يُراد له، أقلّه تنظيراً من مخرجٍ له نتاجٌ سينمائي مهمّ، أبرزه "تيمْبَكتو" (2014)، أنْ يُصبح قراءة بصرية عن حوار ثقافات وحضارات، لن يتمكّن (الحوار المرغوب فيه) من إظهار مفرداته، سينمائياً، بما يُقنع مُشاهداً مهتمّاً.
المسار السرديّ طويل (111 دقيقة)، قياساً إلى المضمون، الدرامي والحكائي والجمالي والفني. الفراغ يحلّ بين حين وآخر، كما الثرثرة (البصرية والكلامية). رتابة في التقاط مشاهِد عدّة (تصوير أيمِريك بيلارْسْكي)، رغم أنّ في بعضها جمالاً طبيعياً؛ بُطءٌ في الإيقاع غير مُريح في متابعة حكايةٍ، يُمكن اختصارها كثيراً لخلوّها من مُفيد وممتع (سيناريو كِسِن فاتوماتا تال وسيساكو)؛ انتقالٌ غير مُبرَّر، سينمائياً، من واقعية سردٍ إلى ما يُشبه مزيجَ الفانتازيا بالمغامرة، في لقاء كاي بابنته مثلاً.
هذه أمثلة. "شاي أسود" غير مُقنع في مفاصل عدّة من سرده الحكاية. الأداء عاديّ، وبعضه بطيء ومملّ. الموضوع يُناقَش، لكنّ قوله سينمائياً مرتبكٌ.