صنع في إنكلترا: استعادة إرثٍ سينمائيّ عظيم

22 سبتمبر 2024
مايكل باول وإيمريك بريسبرغر (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تقدير البريطانيين لرجالهم العظماء**: يتناول الفيلم الوثائقي "صنع في إنكلترا" مسيرة المخرجين مايكل باول وإيمريك بريسبرغر، اللذين نُسيت أعمالهما في بريطانيا حتى أعاد مارتن سكورسيزي اكتشافها في السبعينيات.

- **إسهامات مارتن سكورسيزي**: لعب سكورسيزي دورًا كبيرًا في إعادة إحياء سينما باول وبريسبرغر، حيث قام بترميم أفلامهما وإنتاج أفلام وثائقية عنها، مما ساهم في حفظ وصون الإرث السينمائي.

- **الروابط الإبداعية بين باول وسكورسيزي**: يكشف الفيلم عن الروابط العميقة بين سينما باول وبريسبرغر وأفلام سكورسيزي، خاصة في استخدام الألوان والتقنيات السينمائية العالية التأثير، مما يعكس البحث المستمر عن الإبداع والتعبير الحر.

"متى قدَّر البريطانيون رجالهم العظماء؟".
ساخراً ومُستنكراً، يُجيب مايكل باول قبيل نهاية "صنع في إنكلترا"، الوثائقي الذي يُركّز على مسيرته السينمائية مع إيمريك بريسبرغر. سؤال طرحه عليه المحاور، يتعلّق بالطريقة التي اتّخذتها مسيرة الثنائي الناجحة في أربعينيات القرن الـ20 وأوائل خمسينياته، عندما نُسيت في الموطن الأصلي لباول (بريسبرغر مجريّ)، وأنقذها مارتن سكورسيزي وجيله من "هوليوود الجديدة"، أواخر السبعينيات.
ربما تبدو الإجابة متحذلقة إلى حدّ ما، لكنّها ليست كذلك مع اللهجة الخجولة ومُتحفّظة الكلمات التي ميّزتها، إذْ قال باول ما يُمكن لأيّ شخص مُلاحظته، ليس فقط في عالم السينما: بسبب تواضع زائد أو حذر أو تقليد تاريخي، يتميّز المجتمع البريطاني بانتقاد عظمائه بشدّة، كأنّه شيءٌ "يؤمنون به".
باول إحدى تلك الحالات. سينمائيٌّ أخرج، بمفرده أو مع بريسبرغر، بعض أعظم كلاسيكيات السينما البريطانية، وصار بحلول السبعينيات الماضية رجلاً منسيّاً، يعيش في كوخٍ متواضع في الريف. "صنع في إنكلترا: أفلام باول وبريسبرغر" يعيد التأكيد، لجيلٍ جديد، على القيم الهائلة لسينما الثنائي، مُبتكراً عناوين خاصة ومميّزة: "درج إلى السماء"، و"النرجس الأسود"، و"الحذاء الأحمر"، و"مسألة حياة أو موت"، و"حياة وموت الكولونيل بلمب"، و"حكايات هوفمان". عناوين أصبحت كلاسيكيات، بعد أنْ عرف معظمها نجاحاً حينها، ثم تركها جانباً جيل جديد، واستعادت عافيتها لاحقاً، لتحظى بالتقدير كتُحفٍ فنية.
أكثر من بذل جهداً لاستعادة سينما الثنائي، المعروف باسم "ذا آرتشرز" (اسم شركة إنتاجه)، وإعادتها إلى الواجهة، هو مارتن سكورسيزي، صديق باول، ثم تزوّج ثيلما شونميكر، المولِّفة المعتادة لمخرج "سائق التاكسي". مرة أخرى، يقف وراء فيلمٍ، يُمكن اعتباره أحد دروسه التقليدية عن الحركات السينمائية المختلفة، وصانعي الأفلام. يجلس سكورسيزي في غرفة ذات مقعد سينما، ويروي قصتهما (قصة باول أكثر من قصة بريسبرغر)، لشعوره بمزيد من الارتباط به. تظهر الأسباب، من دون التركيز على قضايا شخصية، بل على تحليل تاريخي ـ كرونولوجي، ودرامي وبنائي لأفلامهما.
يتمتّع سكورسيزي بوضوحٍ أكاديمي في شرح عمل المُخرِجَين، والحركات السينمائية (أفلامه عن السينما الإيطالية والأميركية). إنّه يفعل ذلك بحكمته المعتادة، وإسهابه. في الفيلم، يقارن سكورسيزي أفلام باول وبريسبرغر بأفلامه. صحيحٌ أننا سمعنا وقرأنا عنه وهو يتحدّث ويكتب عن باول، لكنّ الاقتران بين تعليقاته والصُوَر المبهرة للأفلام يُعزّز خطابه. ورغم أنّه لم يُخرج فيلم "صنع في إنكلترا" (بل ديفيد هينتون، مخرج أفلام وثائقية مخضرم)، يُنظّم قصته في شكل "فيديو مقال"، يستمرّ أكثر من ساعتين. إضافة لكونه نجماً، نصّب سكورسيزي نفسه منذ فترة طويلة حارساً لتاريخ معيّن من السينما، بمساهمته ـ عبر الترميم والأفلام الوثائقية ـ في استعادة أعمال مؤلّفين عظماء، وإحيائها. لا أحد مثله يساهم في حمل الإرث السينمائي وحفظه وصونه. في هذا الصدد، يحتلّ باول وبريسبرغر مكاناً حنوناً.
لا تبدو سينما باول وبريسبرغر، أقلّه لوهلة أولى، على علاقة كبيرة بأفلام سكورسيزي. لكنّ جزءاً من مُتعة مشاهدة الفيلم فَهمُ تلك الروابط، ورؤية أين تذهب، وإدراك أنّها أبعد من ذلك. فللسينما الأميركية ارتباطٌ وقُرب أكبر بالواقعية، وتقنياتها السينمائية أكثر تدخّلاً، وعالية التأثير (استخدام الألوان، بعض القطع المونتاجي، الشخصيات الغامضة والمعذَّبة، إلخ) مَدينةٌ لعمل باول، وهذا أوضح في سينما بريان دي بالما، مثلاً.
رافقت أفلام الثنائي، الغريبة والعاطفية أحياناً، "الفُكاهة" البريطانية في الحرب العالمية الثانية وبعدها. فهما فَضّلا غالباً اختيار الفانتازيا والمسرحية والموسيقى والفُكاهة لسرد قصصٍ، ارتبطت بشكل غير مباشر بما كان يحدث في البلد كلّ تلك السنوات. من الطريقتين الإبداعية والفانتازية في تناول تاريخ الحرب في بريطانيا، عبر شخصيات "الكولونيل بليمب" و"درج إلى السماء"، إلى المسرحيات الموسيقية، كـ"الحذاء الأحمر" و"حكايات هوفمان" (أوبريت مليئة بحركات كاميرا طموحة، واستخدام مُكثّف للألوان، واقتراب من السوريالية)، كانت أفلامهما على هامش التقاليد الأكثر واقعية للسينما البريطانية، والأقرب إلى أعمال درامية بالأسود والأبيض، بقصص حضرية و/أو ريفية. مع ذلك، حقّقت نجاحاً لافتاً في زمنها، حيث اجتذبت إنتاجاتهما الملوّنة جمهوراً كبيراً حينها.
يتابع "صنع في إنكلترا" صعوداً وهبوطاً في حياتهما المهنية، ونجاحاتهما الكبيرة، وبداية تراجعهما كثنائيّ بسبب خلافاتهما الشخصية، لاستكشاف عوالمهما الفردية فترة وجيزة (أنجز باول بمفرده فيلم الرعب النفسي "توم مختلس النظر"، إنتاج 1960)، وعلاقتهما بالصناعة والصحافة والنظرة النقدية. لكنْ، ما يساهم به نصّ سكورسيزي، فيما يمكن لأي شخص أن يجده في كتاب عن كليهما (هناك كتبٌ لا تُفوَّت، كالسيرة الذاتية لباول)، أو في مئات المقالات المكتوبة عن سينماه، نظرة شخصية وحميمة، تفهم وتشرح من دون أنْ تصبح تحليلاً نفسياً. في الواقع، العلاقة بين ذاك الرجل الخجول، الذي يشبه باول، والسينما الجامحة أحياناً التي صنعها، تبدو غامضة. هناك تفاصيل محدّدة لما فعلاه بأفلامهما التجريبية والاستثنائية بشكل متزايد.

لعلّ أكثر ما يوحّد سكورسيزي بباول، إلى حقيقة أنّه يُمكن للمرء رؤية كيف "سرق" الأميركي أشياء من أفلامه في مَشاهد من "سائق التاكسي" و"الثور الهائج" و"عصر البراءة"، له علاقة بهذا البحث المستمر عن الإبداع والتعبير الحرّ، وتماهيهما مع حقيقة أنّ المخرج المخضرم فضّل دائماً اتباع إلهامه الإبداعي بما يتجاوز رغبات الصناعة والمنتجين. وكما حدث أيضاً لسكورسيزي، عندما لم يكن أمام الثنائي خيار سوى إنجاز أفلام سريعة و"رائجة" لكسب المال، صارت أفلامهما أقلّ إثارة للاهتمام.
من خلال تكريم باول وبريسبرغر، ما يفعله الفيلم والمخرج ليس أقلّ من احتفاءٍ باستقلالٍ إبداعي صار نادراً هذه الأيام.

المساهمون