يشكّل التوزيع الموسيقي إحدى الأدوات المهمّة في نجاح الأغنية. ولم يوفر كبار الملحنين العرب، مثل محمد عبد الوهاب والأخوين رحباني، استغلال هذا الفن طوال الفترة التي شهدت صعودهم ونجاحهم الفنّي.
الفنان محمد عبد الوهاب عمل جاهداً على توفير مناخات في التوزيع الموسيقي، ليس أقله فرادته في توزيع آخر أغنياته "من غير ليه"، التي كتبها مرسي جميل عزيز. ومن دون شك، تؤرخ بعض الفيديوهات اليوم على محمّل يوتيوب مجموعة من المقاطع لعبد الوهاب وهو ينهي التدريب أو التوزيع لبعض الأغاني، منها جلسته الشهيرة مع الفنانة الراحلة وردة، وهي تقوم ببروفات أغنية "بعمري كله حبيتك". الواضح في الفيديو الصرامة التي اتسم بها عبد الوهاب، والتركيز.
كذلك، يمكننا الوقوف عند التنوّع في التوزيع الموسيقي الذي استخدمه الرحابنة في إعادة هيكلة بعض الأغاني التي غنتها السيدة فيروز، كالانقلاب في إعادة توزيع أغنية "زوروني كل سنة مرة" لسيد درويش، ونقل اللحن إلى عالم آخر، لم يقلل من أهمية الأغنية الأصلية، بل على العكس زادها دفعًا موسيقيًا حملته فيروز بصوتها، ولم تأت على تشويهه كما هو الحال اليوم في إعادة تسجيل أو غناء جزء من ذاكرة الأغاني الخالدة.
في التسعينيات تحديداً، برز نجم الموزع الراحل طارق عاكف (1960 - 2020)، بعد انقلاب حقيقي وضع الأغنية الطويلة جانبًا، وأكسب صناعة الألحان العربية بعدًا تحول إلى بوابة عبور بين مرحلتين تاريخيتين في رسم التجدد للأغنية العربية وما يلزم صنّاع الأغاني لمواكبة هذا التطور.
ربما كان سهلاً على عازف الأورغ الشهير طارق عاكف (رحل أول من أمس)، الذي أحاط بالراقصة المصرية نجوى فؤاد في عز نجاحها، كقائد لفرقتها الموسيقية، أن يتجه إلى التوزيع الموسيقي ويؤسس لما نحن عليه اليوم من "اختصاص" أصبح مرادفًا لا ينفصل عن شروط النجاح المطلوب للأغنية العربية.
محاولات التبديل الموسيقي في الألحان التي اعتمدها طارق عاكف، كانت قد تجددت مع قلة من الفنانين، مثل حميد الشاعري الذي خلط بين القوالب الشرقية والغربية، لكنه لم يؤسس لحالة، بل ظلّ محاصرًا بإنتاجه الغنائي، ليأتي عاكف ويمسك بهذا الاتجاه ويردم النمطية في التسجيلات الغنائية داخل الاستديو ويصبح مدرسة.
استغل عاكف كل الآلات الموسيقية، والجُمل اللحنية المفترض أن ترسم طريق النجاح للأغنية، لكن استغلاله الواضح كان لعزف الوتريات والإيقاع.
كلف الملحن صلاح الشرنوبي زميله عاكف بتوزيع أغاني السيدة وردة في التسعينيات. الشرنوبي كان يعمل للخروج إلى الضوء بعد إنهاء ألبوم "بتونس بيك". ومنذ ذلك التاريخ، كان عاكف أول من أسس لقاعدة حديثة لفن التوزيع الموسيقي.
لعل توأمة الشرنوبي وعاكف لسنوات طويلة في عالم الموسيقى، وغزو الأسواق العربية، أثرى الحقبة التي امتدت حتى نهاية العقد الماضي، ورسم خطة طريق لدخول المجموعة الثانية من الموزعين الموسيقيين الذين يعتمدون على المؤثرات الغربية أكثر من النفحة الشرقية، لكن هذا التبدل لم يلغ سنوات عاشها عاكف متألقًا، ودفعه إلى تأسيس مدرسة خاصة بعالم التوزيع الموسيقي لشدة النجاح.