يُعدّ عدنان مدانات (1946)، المخرج والناقد السينمائي الأردني، من أبرز الوجوه العربيّة، المهتمّة بالسينما، صناعة وتخييلاً، المؤسِّسة تراثاً سينمائياً نقدياً مغايراً. يقرأ التحوّلات التي عرفتها الصورة السينمائية العربيّة، على ضوء مفاهيم وأشكال فيلمية جديدة، برزت في العالم العربيّ منذ سبعينيات القرن الـ20.
خوّلت له دراسته الباكرة في موسكو إمكانية الجمع بين الإخراج والنقد، عندما كان الفعل السينمائي طريقة تعبير عن الذات ومآزقها، وعمّا يعتريها من أسئلةٍ متعلّقة بالاجتماع العربي. على هذا الأساس، برز اسمه كسينمائيّ وناقد ومثقّف غرامشيّ، يهتمّ بالسينما كتابةً، إذْ له مقالاتٍ ودراساتٍ منشورة في صحف عربية، وكتبٍ في السينما والأدب والمسرح وعلم الجمال؛ وإخراجاً، بتحقيقه أفلاماً تسجيلية، كـ"خبر عن تلّ الزعتر" (1976)، و"رؤى فلسطينيّة" (1977)، و"حرب أهلية" (1978). كما كتب سيناريوهاتٍ عدّة، كـ"حكاية شرقية" (1991)، روائي طويل لنجدت أنزور.
هذا يؤكّد الزخم الذي طبع حياته، وجعله في طليعة السينمائيين والنقّاد العرب الأكثر وعياً بالصناعة السينمائية العربيّة، وتحوّلاتها. ورغم هذا التنوّع في اشتغالاته، تبقى كتاباته السينمائية الأبرز بينها، منذ عناوينها الأولى: "بحثاً عن السينما"، و"غرائب الأيام في خفايا الأفلام"، و"أسئلة السينما العربيّة".
جديده، "كتابات في فهم السينما" (2021، "دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع" في عمّان)، دافعٌ إلى حوارٍ معه، هذا جزؤه الأول:
(*) كناقدٍ، كنت من أوائل النقّاد العرب الذين اشتغلوا في الإخراج السينمائي ومارسوا النقد في آنٍ واحد. كيف عشت هذا الزخم الفني وأنت يافعٌ وطالبٌ في موسكو؟
ـ بدأت العمل كمخرج أفلام وثائقية. ككاتب في مجال السينما (لم أعد أحبّ استخدام صفة ناقد)، فقط بعد تخرّجي من الجامعة في موسكو. دراسة السينما في الجامعة تختلف كثيراً عن دراستها في معاهد السينما، ففيها، إضافة إلى التدريب العملي، تركيز كبير على البناء الثقافي عموماً، والسينمائي خصوصاً. للمعرفة النظرية أولوية في التأهيل الجامعي للطالب. هذا ساعدني عندما بدأت الكتابة عن السينما والأفلام.
(*) لكنْ، ماذا أضافت موسكو لك على مستوى حياتك المهنية، لا سيما في الإخراج؟
ـ استغرقت دراسة السينما في الجامعة 5 أعوام، شاهدت فيها أهمّ الأفلام في تاريخ السينما، التسجيلية والروائية، وشاركت في نقاشاتٍ عنها، كانت تحتدم بين الطلبة، وحظيت بأساتذة رفيعي المستوى. أكثرهم فائدة لي سيرغي درباشينكو، الذي له فضل تعريف العالم بتراث دزيغا فيرتوف، بجمعه مقالاته ويومياته في كتاب واحد، مع مقدمة طويلة تحليلية لنظريته. بعد تخرّجي، ترجمت الكتاب إلى العربية، بعنوان "الحقيقة السينمائية والعين السينمائية". هذا كلّه، إضافة إلى التدريب العملي، أكسبني خبرة أولية، ساعدتني عندما بدأت إخراج الأفلام التسجيلية وكتابة الدراسات.
(*) كيف فكّرت بجمع مقالات ودراسات، نشرتها في أعوامٍ سابقة، في "كتابات في فهم السينما"؟ إنّه كتاب إشكاليّ وجامع.
ـ اتصلت بي دار نشر عربية حديثة العهد، تطلب منّي كتاباً في السينما. اقترحت جَمْع مقالاتٍ ودراسات منشورة سابقاً في صحفٍ ومجلات عربية. لم يعترض مسؤولو الدار، فاخترت مجموعة منها، تُعالج مواضيع سينمائية، ولا تتناول أفلاماً. لكنّ العقد المُرسَل إليّ، بعد الموافقة على المخطوط، لم يحظَ بموافقتي، فبقي المخطوط في الدرج، إلى أنْ اتّصل بي الصديق محمد العامري (رسّام وشاعر أردني ـ المحرّر)، وأبلغني بأنّ دار "خطوط وظلال" في الأردن، وهو مديرها، قرّرت إصدار سلسلة كتب سينمائية، سيكون أولها كتاب للصديق أمير العمري، فأرسلت له المخطوطة.
(*) كيف يُمكن أنْ تُساهم كتابات كهذه في خلخلة المألوف في السينما العربيّة؟ هل تعتقد أنّ المخرجين العرب يهتمّون بكتاباتٍ تُشرّح أفلامهم؟
ـ يقول المثل الشعبي: "اعمل المعروف وارمِهِ في البحر". يكتب الباحث من هذا المنطلق. المؤسف، أن المخرجين العرب لا يهتمّون، عادة وكما يجب، بما يكتبه الباحثون. فهم معنيّون غالباً بإخراج الأفلام، أكثر من عنايتهم بالنواحي الثقافية في صنعها. في الواقع، لا يُمكن لومهم، فهم، إذْ يبذلون جهوداً جبّارة للحصول على تمويل، يُصبحون غير معنيّين بأمورٍ نظرية.
(*) عادة لا تقبل دور النشر إعادة نشر مقالات في النقد السينمائي، علماً أنّ الكتابات، المنشورة في صحفٍ ومجلاّت عربية، باتت مرجعاً وحيداً للطلبة والباحثين في مجال الصورة السينمائية ومُتخيّلها، في غياب البحث الأكاديمي. لماذا ظلّت السينما بعيدة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات والمختبرات العربيّة؟
ـ بالعكس. معظم الكتب العربية عن السينما، التي نشرتها دور نشر عربية، تعتمد على جمع مقالات منشورة سابقاً. للأسف، لا تُتاح للنقّاد والباحثين العرب في الثقافة السينمائية فرصة التفرّغ لتأليف كتب عن السينما. فرصتهم المتاحة كامنةٌ فقط في إعادة نشر مقالات ودراسات منشورة في دوريات مختلفة. في مقدّمة "كتابات في فهم السينما"، كتبت عن هذا.
لديّ صديق ألماني، باحثٌ متخصّص بأيزنشتاين، أصدر 5 كتب، كلّ منها تحليلٌ لفيلمٍ محدّد من أفلامه. لا يحظى الباحثون العرب في السينما بفرصةٍ كهذه، التي ربما يُنظر إليها كترفٍ لا ضرورة له.
بالنسبة إلى الشقّ الثاني من السؤال: كما أعلم، هناك طلاّب عرب في جامعات عربية وغير عربية، كانت رسائل الدكتوراه الخاصّة بهم عن السينما. للأسف، لم يجد معظمها طريقه إلى النشر في كتب. اطّلعت شخصياً على عددٍ منها، وساعدت ونصحت طلاّبا عرباً، خصوصاً في مجال السينما التسجيلية ـ الوثائقية.
(*) لكنّ هذه الأطروحات الجامعية، رغم ندرتها، متقوقعة حول النظرية، أو تعيد شرحها وتوليفها مع نظريات أخرى. هذا، بحدّ ذاته، ليس جديداً، مقارنة مع كتاباتك، التي تمزج بين النظرية والتطبيق. إلى أيّ حد يمكن أنْ تقف النظرية عائقاً أمام الناقد/ الباحث في قراءة المنجز السينمائي العربي، في مرحلته وآنيّته، من دون الرجوع إلى أيزنشتاين أو تاركوفسكي؟
ـ للدراسة الأكاديمية، وكتابة أطروحات الماجستير والدكتوراه، متطلبات لا يُمكن للباحث إلاّ تلبيتها. منها مثلاً أنْ تتضمّن الرسالة عدداً كبيراً من المراجع والاستشهادات والاقتباسات. المشكلة ليست هنا، بل في أنّ حامل لقب "دكتور" يتحوّل سريعاً إلى مُدّرس، ولا يصبح باحثاً مُتفرّغاً. وإنْ كتب بحثاً ما، فلكي ينشره في دورية محكمة، بغرض الترقية الوظيفية. هذا مؤسف، لكنّه حقيقي، بينما يُمكن للدارسين الأكاديميين المُساهمة بفعالية، بجهدٍ نظري، في تطوير الأفلام العربية.
(*) يتّخذ الكتاب صبغة "توعوية" بالسينما، و"فهمها ككلّ"، برصد ظواهر جمالية وقضايا ونظريات سينمائية. هل تعتقد أنّنا بحاجة إلى هذا النوع من المقاربة النقدية اليوم، عربياً؟ ولماذا؟
ـ القارئ العربي المهتم بالسينما يحتاج فعلاً إلى هذا النوع من المقالات والدراسات، التي تشرح له ماهية السينما، أكثر من حاجته إلى نقد أفلام، ربما لا يشاهدها. والنقد، مهما كان بارعاً، يبقى وجهة نظر شخصية، ربما تختلف عنها أو تعارضها وجهات نظر أخرى.
(*) ما تقوله عائدٌ أساساً إلى طبيعة تلقّي الفيلم. تعدّد أنماط الصُوَر وجماليّاتها وسياقاتها التاريخيّة المُتشعّبة تفرض هذا النوع المغاير والمتباين على مستوى التلقّي. كيف يُبلور الناقد رؤية صحيحة للفيلم، تُراعي مكوّناته الفنية والجمالية، وتلتقي ـ في الوقت نفسه ـ مع الآراء الأخرى، خاصّة أنّ بعض الأفلام ينتج عنها خطاب واحد؟
ـ كما أنّ الشعر يحتاج إلى موهبة، كذلك النقد، رغم أنّ هذا التشبيه ربما لن يُعجب كثيرين. في جوهره، يعتمد النقد على قدرة تحليل وتركيب. هذه مَلكة عقلية طبيعية، غير مُتاحة للجميع. أنْ تُحلّل، يعني أنْ تقدّم رأياً. أنْ تُركّب، يعني أنْ تقدر على الخروج باستنتاج، وأن تنقل من الخاص إلى العام. بهذه الطريقة، يكون النقد مفيداً، لصانعي الأفلام والمشاهدين.