"عن بُعد"، فيلمٌ قصير (13 دقيقة) للّبنانية راشيل عون، مُنتجٌ حديثاً (لبنان/قطر، 2022)، ومعروض في مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ13 (28 إبريل/نيسان ـ 4 مايو/أيار 2023) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية".
حكايته مُستلّة من حادثة حقيقية، تشهدها بيروت قبل أعوام قليلة: شابٌ أرعن ومفتول العضلات يُطارد عجوزاً، فيقتله في الشارع أمام زوجته وآخرين/أخريات، طعناً بالسكين، بعد أنْ ينهال عليه بالضرب المبرح، من دون أنْ يتجرّأ أحدٌ على مواجهته، باستثناء الزوجة المفجوعة والعاجزة. السبب؟ تلاسن أثناء قيادة السيارة بين الشاب والزوجين المُسالمين. القاتل ينجو، فله في السلطة الحاكمة حامٍ؛ والأرملة غائبة عن المشهد العام، بعد وقتٍ قليل فقط على انتشار الحكاية عبر وسائل تواصل، يُفترض بها ألا تُسمى بالـ"اجتماعي" (في "عن بُعد"، تعليقٌ عابر لكنّه واضح وحقيقي، ينتقد بشدّة وقرف تعامل هذه الوسائل مع أحداثٍ كهذه).
راشيل عون غير معنية بسرد تلك الحكاية/الحادثة. لقطات قليلة، مُمثَّلة أمام الكاميرا، كافيةٌ للدخول في حالةٍ أخرى، تُنتجها تلك الحكاية/الحادثة. روجيه (جوزف زيتوني) يخرج من منزله حاملاً علبة شوكولاته للاحتفال بولادة ابنه مع طلبته في كرة السلّة وأساتذة ومدربين وعاملين/عاملات في النادي. يُفترض بولادة كهذه أنْ تملأه فرحاً. بعد قليلٍ على خروجه من المنزل، يواجِه الحادثة أمام عينيه. تلك الثواني السينمائية العادية توحي بأنّ مُصاباً يُفترض بروجيه أنْ يتعرّض له، لكنّ شيئاً من هذا غير حاصل. سيحاول زيتوني، لاحقاً، "إثبات" صدمة روجيه وانكساره وارتباكه، من دون طائل. اللاحق، الذي يجب أنْ يكون، درامياً، تعبيراً عن معنى الصدمة والتعرّض لإهانة العجز والخوف الجماعي من فردٍ متسلّط بغضبه ووحشيته ونفوذه، هذا اللاحق غير حاضرٍ سينمائياً.
المادة، البصرية والدرامية والفنية، موجودة. الحكاية/الحادثة قابلةٌ لصُنع فيلمٍ سينمائي متنوّع الاتجاهات والمسارات. مهنيّة راشيل عون، تقنياً وفنياً واشتغالات سابقة، زادٌ غير مترجم، كلّياً، في "عن بُعد". لحظتان أساسيتان يُغنيان النصّ، لارتباطهما بصدمة العجز ومهانته: ولادة الابن (في بلد الموت/القتل/العنف)، وارتكاب فعل جُرميّ أمام أبٍ حديث. الانهيار النفسي طبيعي، فالجريمة حاصلة بعد وقتٍ قليل للغاية على الولادة. لكنّ النص السينمائي (عون) غير مشتغل على هذا. التمثيل (زيتوني) مفتعل، خاصة في لحظة غضبه أمام أحد تلامذته.
الحكاية/الحادثة وتأثيراتها وتداعياتها مهمّة للغاية. إنّها جزءٌ من راهنٍ لبناني مُدمَّر ومُدمِّر. لذا، بإمكانها خلق متتاليات سينمائية عن حالة أو بيئة أو فرد أو اجتماع أو نفسٍ أو بلدٍ. راشيل عون مؤهّلةٌ لإنجاز الأفضل من "عن بُعد"، رغم أنّ فيلمها القصير هذا يمتلك حساسية سرد، وشخصيات جانبية تقول بعفوية تفاصيل متناثرة عن عالمٍ وحالةٍ وقهر. تلك الشخصيات المحيطة بروجيه، الظاهرة في لقطات قليلة، وبعضها في أقلّ من غيرها، وبعضها الآخر غير ظاهر، تُشكِّل لوحة سمعية تعكس ما يحصل من دون تصويره، والحاصل متعلّق بالحادثة نفسها. التلامذة، الذين يتدرّبون في ملعب كرة السلّة، يُقدّمون أدوارهم (أم أنّها ليست أدواراً بل واقع حقيقي؟) بسلاسة وبساطة وطبيعية.
جوزف زيتوني غير مُقنع بروجيه. هناك خطبٌ في تأديته الدور. انفعالاته، التي يوحي السرد بأنّها متناقضة (بين صدمة تتنامى ومحاولة تمسّك بالعادي في تعاطيه مع الآخرين، قبل انهياره)، غير مؤثّرة.
رغم ملاحظات كهذه، يقول "عن بُعد" شيئاً بصرياً عن بشاعة بلدٍ وأتاس، وانهيار بلدٍ وأناسٍ.